خيارات اقتصادية قادمة
هناك عادة ثلاثة أهداف للسياسة الاقتصادية لكل بلد، الأول ـــ القدرة على أن تكون لدى السلطات سياسة نقدية مستقلة كي تتمكن من التحكم في التضخم والبطالة، والثاني ـــ أن يكون سعر صرف العملة مستقرا كي يتفادى الاقتصاد تحولات وتغيرات مزعجة في الواردات والصادرات، والثالث ـــ حرية تحريك رأس المال كي يتمكن المواطنون والشركات من التوظيف الأمثل لرؤوس أموالهم. الحكم على أداء الاقتصاد ينطلق من قدرته على تحقيق هذه الأهداف. تذكر أدبيات الاقتصاد الدولي أنه في الغالب يصعب أن تحافظ الدول على أكثر من هدفين في آن واحد. لأسباب موضوعية أهمها توافر المال وقدرة الحكومة على الإدارة العامة ماليا على الرغم من تذبذب أسعار النفط استطاعت الحكومة الحفاظ على الأهداف الثلاثة. هذه الحالة سادت في المملكة منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي بعد أن كانت التجربة مريرة في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات الميلادية. الخيار في العقود القليلة الماضية كان واضحا وعبرت عنه قدرة المملكة على تحقيق الأهداف الثلاثة بدرجة عالية من الكفاءة على الرغم من موجة التضخم في بداية ووسط السبعينيات والبطالة (المختلطة مع تشوه وضعف المشاركة في سوق العمل) التي بدأت تتصاعد منذ الألفية الجديدة.
السبب الرئيس في القدرة على تحقيق الحد المقبول جدا لهذه الأهداف أن الاقتصاد كان ولا يزال يدار من القطب المالي حيث تتوافر أموال كبيرة إلى حد استقرار الأهداف الثلاثة لمدة معتبرة على حساب القطبين الاقتصادي والنقدي وكذلك بسبب الدور المركزي لوزارة المالية بقيادة المحنك محمد أبا الخيل الذي استطاع إقامة منظومة مناسبة للمرحلة استمرت بعده لمدة معتبرة. هذه الوضعية كانت ممكنة وحتى مناسبة لمدة طويلة لأن بدايات الاقتصاد وحجم السكان والمعرفة الفنية لم تكن على درجة من التعقيد. تدريجيا أصبح الاقتصاد أكثر تعقيدا وأكبر حجما وقد يصل بعد نهاية هذا العقد إلى مرحلة تتطلب التضحية بأحد هذه الأهداف مرحليا بسبب الضغوط المالية من ناحية وتطور وتعقيد الاقتصاد إلى حد أن المالية العامة لا تكفي فقط لإدارته. محاولة المملكة متمثلة في أهداف وخطط "الرؤية" تطمح إلى تعميق القطب الاقتصادي مثل ما ذكر الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حديثه مع "واشنطن بوست" في تطوير صناعة السلاح والسيارات ومشاريع أخرى مثل الترفيه ودعم المالية للصناعة من خلال قروض ميسرة طبقا لما ذكرت وزارة المالية. تعميق الاقتصاد (مزيد من الروابط الرأسية والأفقية وتسارع الإنتاجية) مع الضغوط على المالية العامة قد يضطر إلى التنازل عن أحد هذه الأهداف، إذ إن تعميق الاقتصاد أو استمرار أسعار النفط عند هذا المستوى، أو هجرة الأموال لسبب أو آخر قد يضطر الحكومة للتنازل عن أحد الأهداف.
التنازل عن أي من الأهداف ليس حتميا ولكن التحدي سيزداد صعوبة مع التطور وصعوبة الخيارات كلما يتعمق الاقتصاد أو يزداد العجز المالي أو تتأثر الكفاءة الإدارية. قد تلوح فرصة تاريخية للمواءمة بين تحول اقتصادي مدروس لتفعيل القطب الاقتصادي وتخفيف دور القطب المالي وتحريك مقبول للقطب النقدي ليواكب حراكا اقتصاديا جديدا. هذه توازنات دقيقة تحكمها الظروف الموضوعية في حينه وكفاءة القائمين على الشأن الاقتصادي والمالي والنقدي ودرجة التنسيق بينهم. الأهم أن يكون هناك وضوح في خريطة الطريق اقتصاديا حيث تغليب قوى الإنتاج ورصد رصين للإنتاجية.