رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


منظومة التنمية المستدامة .. وآفاق المستقبل

في تعبير "التنمية المستدامة"، نحن أمام كلمة أولى هي "التنمية"، تعقبها صفة لهذه الكلمة هي "المستدامة". وتنطلق دلالة كلمة تنمية من معنى فعلها "نما" أي زاد أو رفع المستوى؛ ويرتبط معنى الصفة "مستدامة" بفعلها "استدام" أي تواصل واستمر. ثم تأتي كلمة "منظومة"، في العنوان أعلاه، لتضاف إلى تعبير "التنمية المستدامة"، وجذر هذه الكلمة "نَظَمَ" يأتي بمعنى جمع مكونات الموضوع وما يرتبط به في إطار منظم. وعلى ذلك يفترض، في موضوع منظومة التنمية المستدامة، أن يبحث في مشهد التنمية وشؤون استدامتها؛ وهو موضوع مهم، نحاول في هذا المقال توجيه الضوء إليه، ومناقشة آفاقه المستقبلية.
ولعلنا نبدأ بالنظر إلى ما يعرف على المستوى العالم بـ"أهداف التنمية المستدامة "SDG الصادرة عن الأمم المتحدة عام 2015م، التي تستهدف عام 2030 لتحقيق ما تتطلع إليه. ويبلغ عدد هذه الأهداف 17 هدفا تطرح التوجهات التي تعتبرها مطلوبة للوصول إلى تنمية مستدامة على مستوى العالم. وترسم هذه التوجهات ملامح منظومة هذه التنمية.
لا للفقر هو الهدف الأول؛ ولا للجوع هو الهدف الثاني. يأتي بعد ذلك الهدف الثالث ليهتم بالصحة والعيش الكريم؛ والرابع ليركّز على جودة التعليم؛ والخامس ليؤكد المساواة بين الجنسين؛ والسادس ليبين ضرورة تأمين المياه النقية والنظافة الصحية؛ والسابع ليتحدث عن تأمين الطاقة النظيفة بتكاليف مناسبة. ثم الثامن الذي يهتم بالعمل المناسب والنمو الاقتصادي؛ والتاسع الذي يركز على الصناعة والابتكار والبنية الأساسية؛ والعاشر الذي يختص بالحد من أوجه عدم المساواة.
ويتطلع الهدف الـ 11 إلى بناء مدن وتجمعات سكانية مستدامة؛ ويطرح الهدف الـ 12 مسؤولية الاستهلاك والإنتاج. ثم يتحدث الهدف الـ 13 عن المناخ وما يرتبط به؛ ويختص الـ 14 بشؤون مصادر الحياة تحت الماء ويركّز الـ 15 على الحياة البرية. ويأتي الهدف الـ 16 بعد ذلك ليثير مسألة السلام والعدل والمؤسسات الفاعلة؛ ثم الـ 17 والأخير ليدعو إلى الشراكة في التنمية على مستوى العالم.
إذا نظرنا إلى ملامح منظومة التنمية المستدامة من خلال توجهات الأهداف الـ 17 سابقة الذكر، نجد أنها ترتبط بستة محاور رئيسة. محور يهتم بخدمة الإنسان والارتقاء بمعارفه وإمكاناته؛ ومحور يحرص على سلوكه وعمله؛ ثم محور يهتم بمعطيات مصادر الطبيعة وكيفية التعامل معها والاستفادة منها؛ ومحور يركّز على توفير البنية المناسبة للتجمعات السكانية؛ ومحور يختص بالسلام والعدالة والمؤسسات؛ إضافة إلى محور يتعلق بالعلاقات الخارجية والتعاون.
ولعلنا بنظرة جامعة إلى ما سبق، نجد أن منظومة التنمية المستدامة تستند إلى ثلاثية جوهرية تشمل: الإنسان: والمعرفة به وشؤون تمكينه ورعايته وتفعيل إمكاناته؛ والطبيعة: وخصائص مصادرها المتاحة ومعطياتها؛ إضافة إلى الحوكمة: المسؤولة عن توجيه التنمية وتأمين البيئة المناسبة لها. ولعلنا نجد أيضا، في هذه النظرة الجامعة، أن المنظومة تستهدف الجوانب الإنسانية؛ والاجتماعية؛ والاقتصادية لحياة الإنسان. وهناك بالطبع ترابط بين هذه الجوانب؛ فلن تكون هناك أعمال مناسبة وعطاء اقتصادي دون جاهزية إنسانية واجتماعية؛ ولن يكون هناك تمكين إنساني واجتماعي دون رصيد اقتصادي.
وعت الدول التي تمتعت بنمو سريع، كالنمور الآسيوية، حقائق التنمية مبكرا، فقامت عبر الحوكمة بوضع الرؤى والخطط المستقبلية، واستغلت في ذلك مصادر الطبيعة لديها، وركّزت على الارتقاء بإمكانات الإنسان وتعزيز مهاراته، وتأمين البيئة المناسبة للعمل والإنجاز. واستطاعت نتيجة لذلك جلب الاستثمارات من الدول الغنية، خصوصا مع انخفاض تكاليف الأجور فيها بالنسبة لتلك الدول. وأدى ذلك إلى تفعيل الإمكانات، وتحقيق نمو اقتصادي يزيد على نمو الدول الغنية، وبالتالي يستطيع اللحاق بمستواها في المستقبل.
في كتابه "البليون الأدنى" The Bottom Billion، أي البليون البائسون من سكان العالم، الصادر عام 2007، يقسم بول كولير أستاذ الاقتصاد في جامعة أكسفورد Paul Collier الدول، على أساس معدل التنمية الذي تشهده، إلى ثلاثة أقسام هي: الدول المتقدمة، والدول التي تسير على طريق التقدم، ثم الدول العاجزة عن السير في هذا الطريق.
يشرح كوليَر هذا التقسيم في كتابه، حيث يبين أن الدول المتقدمة تنمو بنسبة محدودة، بعد أن وصلت إلى مستوى متقدم من الثروة والاستقرار، حتى أنها تستثمر جزءا من هذه الثروة خارج حدودها. ثم يشير إلى أن الدول الطموحة التي تسير على طريق التقدم تتمتع بنسبة نمو أعلى من نسبة نمو الدول المتقدمة، وعلى ذلك فهي مرشحة للوصول، بعد زمن، إلى مستوى تلك الدول. أما الدول الأخرى المحدودة أو المتوقفة النمو، أو التي تعاني تدهور حالتها التنموية، فإنها في وضع يعاني فجوة متزايدة مع دول العالم الأخرى. في مثل هذه الدول، يعيش البليون البائسون من سكان العالم.
يعطي كولير أربعة عوائق محتملة لتدهور حالة التنمية في البلدان المختلفة. وتشمل هذه الأسباب: وجود عدم استقرار داخلي؛ أو هبوط عطاء المصادر الطبيعية، بعد الاعتماد عليها بأكثر مما ينبغي؛ أو انغلاق حدود الدولة ووجود نزاعات مع جيرانها؛ أو ضعف الحوكمة وانتشار الفساد. وفي عرض هذه الأسباب يقدم المؤلف أمثلة مختلفة من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لا شك أن قضية التنمية المستدامة تستحق اهتماما خاصا، نظرا لأثرها الكبير في صناعة المستقبل، ذلك الميراث الذي سنقدمه للأجيال القادمة، الذي نريده مشرقا وضّاء. نحتاج في ذلك إلى أن نرسم واقع منظومة هذه التنمية، واقع ثلاثية "الإنسان، والمصادر الطبيعية، والحوكمة" وكل ما يرتبط بها، بما في ذلك كل ما يمكن أن يعززها، وكل ما يمكن أن يعوقها؛ وأن نرسم أيضا الحالة المأمولة لهذه المنظومة؛ ثم أن نضع مسارات الانتقال من الواقع إلى المأمول؛ ونسعى إلى الالتزام بها. ولا بد في هذا المجال من التركيز على أن التنمية المنشودة هي تلك التي يصنعها الإنسان والمجتمع بكل أطيافه؛ وأن معطيات المصادر الطبيعية يجب أن تكون أساسا للاستثمار وليس فقط للإنفاق. فإذا كنا نفعل ذلك، أو نسعى لفعله، فنحن بمشيئة الله، على الطريق إلى المستقبل المأمول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي