موسكو تسعى للعودة إلى أفغانستان
على مدى السنوات الماضية كانت أصابع الاتهام موجهة على الدوام إلى باكستان لجهة دعم المتمردين الطالبانيين في قتالهم ضد حكومة كابول المدعومة من الغرب، خصوصا أن باكستان، كما هو معروف، أسست طالبان ومكنتها من السلطة في عام 1996 ــ قبل أن تخسرها في عام 2001 تحت الضربات العسكرية التي أمر بها الرئيس جورج بوش الابن كرد فعل على هجمات 11 من أيلول (سبتمبر).
وعلى مدى السنوات الماضية أيضا كانت موسكو تعارض بشدة أي تفاهم أو حوار مع طالبان أو أي لقاء مع لوردات الجهاد الذين هزموا قواتها في أفغانستان قبل انسحابها المذل في عام 1988، بدليل أن الكرملين احتج لدى واشنطن حينما عزمت الأخيرة على إجراء مفاوضات مع ممثلي طالبان في قطر.
غير أن الأمور باتت اليوم مختلفة، والمشهد تبدل من حال إلى حال. فمثلما توقف المراقبون بدهشة أمام قرار موسكو قبل وقت قصير الاكتفاء بالمعارضة وعدم استخدامها حق النقض "الفيتو" ضد قرار مجلس الأمن الدولي القاضي برفع العقوبات المفروضة على قلب الدين حكمتيار، أحد أشهر أمراء الحرب والإرهاب وزراعة المخدرات الأفغان الذي قصفت جماعته كابول بوحشية في التسعينيات، وكان قبل ذلك مسؤولا عن مقتل المئات من الجنود السوفيات الغزاة، فإن الدهشة أصابت هؤلاء المراقبين مجددا في الأسبوع الماضي حينما أيد "زامير كوبولوف" المبعوث الخاص للكرملين إلى أفغانستان دعوة حركة طالبان المتمردة إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية من هذا البلد المنكوب.
إذ كيف لدولة عانت الإرهاب وتقول إنها ملتزمة بمقاتلة الإرهابيين أينما وجدوا، أن تؤيد دعوة حركة إرهابية حرقت الأخضر واليابس في أفغانستان واحتضنت زعماء القاعدة والمتشددين من كل مكان ــــ بمن فيهم رعايا روس، شيشانيون تحديدا، ومواطنون من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق أوزبك وطاجيك تحديدا ــــ وهي تعلم علم اليقين أن ما تسعى إليه طالبان، بدعوتها إلى انسحاب القوات الأجنبية، هو عودتها إلى السلطة في كابول مجددا وبالتالي ممارسة مزيد من الإرهاب ونشر الفوضى والتخلف واحتضان المتشددين من كل أرجاء المعمورة؟
لكن يمكن تفسير ما يحدث من غزل بين أعداء الأمس باستخدام النظرية القائلة "لا يوجد أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون في السياسة". وبعبارة أخرى إذا اقتضت المصلحة، لا مانع من أن يكون عدو الأمس صديق اليوم والعكس بالعكس. لكن ما هي يا ترى مصلحة موسكو من دعم مواقف طالبان، بل الانفتاح عليها من بعد تجاهل ونفور طويلين؟ الإجابة يمكن استنباطها من تصريحات أدلى بها أخيرا جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكي الذي أعرب عن قلق بلاده من تنامي العلاقات بين موسكو وقادة طالبان، علما بأن هذه التصريحات جاءت بعيد تصريحين في السياق نفسه، كان أولهما ما قاله الجنرال جوزيف فوتيل قائد القيادة المركزية الأمريكية في جلسة استجواب أمام لجنة القوات المسلحة في الكونجرس الأمريكي من أن موسكو باتت تدعم طالبان بالسلاح وبمساعدات أخرى بهدف فرض واقع جديد في أفغانستان، وكان ثانيهما ما ذكره الجنرال جون نيكلسون قائد القوات الأمريكية في أفغانستان عن تزايد الاتصالات بين مسؤولي الكرملين وقادة طالبان. غير أن الناطق باسم الخارجية الروسية سارع إلى نفي خبر دعم بلاده لطالبان بالسلاح، لكنه لم ينف وجود اتصالات بينهما، مقدما تبريرا غير مقنع لذلك تمثل في قوله "تتعلق الاتصالات مع طالبان بأمن المواطنين الروس العاملين على الأراضي الأفغانية".
نستنتج مما سبق أن كل ما يجري له علاقة بحالة الشد والجذب القائمة حاليا بين واشنطن وموسكو ومناكفة كل منهما للآخر على نحو ما كان يجري زمن الحرب الباردة القديمة التي أجمع العالم على انتهائها بسقوط الاتحاد السوفياتي، لكنها عادت اليوم بحلة جديدة.
كما يمكن القول إن موسكو باتت تتعامل فيما يخص الشأن الأفغاني بمنطوق "عدو عدوي صديقي". فطالما أن الميليشيات الطالبانية تقوم بعمليات عسكرية وانتحارية ضد القوات الأمريكية والغربية العاملة في أفغانستان أو ضد حكومة كابول المدعومة من واشنطن والغرب، فإنها تستحق الدعم لأنها تنفذ في الواقع أهداف موسكو المتمثلة في إذلال الأمريكيين والأوروبيين الذين هبوا لحصارها ومقاطعتها بعد أحداث أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. وهي في الوقت نفسه تنفذ أهداف ثلاث دول أخرى هي إيران حليفة الروس في سورية التي لا حاجة لنا إلى بيان عدائها للولايات المتحدة والغرب، والصين حليفة الروس في التصدي للاستراتيجيات الأمريكية، إضافة إلى باكستان التي تتمنى انتصار طالبان وعودتها إلى السلطة كي تقف في وجه النفوذ الهندي المتنامي في أفغانستان في ظل حكومة الرئيس أشرف غني. ومن هنا لم يكن غريبا أن تقوم موسكو بترتيب مؤتمر رباعي قبل ثلاثة أشهر، شاركت فيه روسيا الاتحادية والصين وباكستان وإيران تحت لافتة تحقيق السلام والاستقرار في أفغانستان، فيما كان الهدف الأصلي منه وضع ترتيبات تسمح لموسكو بلعب دور الوسيط في الشأن الأفغاني أولا، ثم استغلال هذا الدور للتحكم والتمدد الجيوسياسي في منطقة جنوب آسيا على حساب واشنطن وحلفائها. وبطبيعة الحال فإن التحكم والتمدد يشمل ضمن أمور أخرى منع وصول الإرهاب والمتطرفين وتجار المخدرات الأفغان إلى التخوم الروسية وتخوم الحلفاء، ومنع تحولها إلى حاضنة جديدة لتنظيم داعش بعد هزيمته المتوقعة في العراق وسورية.
وجملة القول إن أفغانستان، التي هزمت القوات السوفياتية الغازية بأسلحة أمريكية، شبهها كثيرون بفيتنام التي هزمت القوات الأمريكية الغازية بأسلحة سوفياتية، باتت تحت مجهر الروس الذين يسعون للعودة إليها ضمن مخططاتهم وطموحاتهم في الشرق الأوسط بدءا بسورية.