تركيا وإيران .. مواقف متناقضة وعلاقات محيرة
لعل العلاقات الثنائية الإيرانية ــ التركية من أكثر العلاقات التي تبدو عصية على الفهم. إذ يحار المراقب في إيجاد الوصف السليم لها لأنها ليست عدائية بالمطلق، كما أنها ليست ودية في جميع الأحوال.
يقف البلدان الجاران على طرفي نقيض، سواء لجهة أسلوب الحكم أو أنماط علاقاتهما الخارجية مع الأطراف الدولية والإقليمية، ناهيك عن اختلاف توجهاتهما الأيديولوجية. فتركيا تتبنى علنا النهج العلماني فيما هي ماضية على قدم وساق لأسلمة المجتمع. أما إيران فمنذ انقلابها المشؤوم على نظام الشاه تخضع لسيطرة حفنة من المعممين المؤمنين بفكرة ولاية الفقيه الذي لا يسأل عما يفعل باعتباره نائب الإمام المعصوم، ويديرون البلاد بالحديد والنار بمساعدة حرسهم الثوري المؤدلج. وعلى حين تروج أنقرة لنفسها كحامية للعرب السنة ومدافعة عنهم في وجه التغول الإيراني الطائفي، تحاول طهران جاهدة الهيمنة على خيارات المعتنقين للمذهب الشيعي والتحدث باسمهم وانتزاع ولائهم لأوطانهم الأصلية وتحرضهم ضد حكوماتهم الشرعية على نحو ما بات معروفا للجميع.
ومن حيث مواقفهما من القوى العالمية والإقليمية نجد أن تركيا، وإن اتخذت أخيرا مواقف متشنجة تجاه أوروبا، فإنها لا تزال عضوا في حلف الناتو وتتمتع بعلاقات جيدة مع معظم الدول العربية إضافة إلى إسرائيل، ناهيك عن استضافتها قواعد عسكرية أمريكية وإسرائيلية، فيما التوتر أو القطيعة هو العنوان الأعرض لعلاقات طهران مع سائر القوى.
ولكل هذه الأسباب يبدو واضحا عدم استقرار علاقات البلدين البينية على خط ثابت وواضح منذ قيام الثورة الخمينية، وبصفة خاصة في السنوات الأخيرة التي شهدت اندلاع الحرائق في أكثر من بلد مجاور لهما وتصادم وجهات النظر بينهما حول طريقة إطفائها، وذلك على الرغم من ارتياح طهران لوجود حزب حاكم في أنقرة مثل "حزب التنمية والعدالة" ذي التوجهات الإخوانية.
المعروف أن العنوان الراسخ للعلاقات الإيرانية ـــ التركية قبل عام 1979 كان التعاون والتفاهم والتحالف الوثيق مع الغرب ممثلا في أحلافه ومنظوماته العسكرية (حلف الناتو وحلف بغداد وحلف السينتو)، مع شيء من الخلافات المستترة حول الحدود ومصالح كل طرف في العراق الذي شكل نقطة خلاف جوهرية بينهما منذ مطلع القرن العشرين. وحتى بعد سقوط حلف بغداد بخروج العراق منه في عام 1958، سارع الأتراك والإيرانيون إلى تأسيس نمط مشابه من التحالف والتعاون مع ضم الباكستانيين إليهم في ما عرف باسم "مجلس التعاون الإقليمي للتنمية"، لكن الصراعات المستترة ظلت باقية يؤججها من حين إلى آخر تنافس كل منهما على مواقع النفوذ في الشرق الأوسط أولا، ثم تنافسهما على النفوذ في آسيا الوسطى بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي.
لاحظ المراقبون في الفترة الأخيرة أن أكثر من اجتماع عقد بين مسؤولي البلدين على مستوى القمة، لكن ما إن تنفض الاجتماعات حتى تقع حالات من التلاسن والاتهامات يعقبها استدعاء كل طرف سفير الطرف الآخر لديه للاحتجاج، مع خروج تصريحات إيرانية تذكر الأتراك بوقوف طهران إلى جانب أنقرة في محاولة الانقلاب الفاشلة ضد نظام أردوغان في تموز (يوليو) 2016، وخروج تصريحات تركية في المقابل تذكر الإيرانيين بأفضال أنقرة عليهم في سنوات الحرب العراقية ــ الإيرانية والعقوبات الدولية حينما كانت تركيا المنفذ الوحيد لإيران نحو العالم الخارجي. في كل هذه الحالات كان سيد الخلاف هو مواقف البلدين المتضاربة من الملفين السوري والعراقي وتداعياتهما، حيث سجل عن أردوغان، في أكثر من مناسبة، وصفه سياسات طهران بأنها تضر بالاستقرار وتسعى للتمدد ونشر التشيع وتغذية الطائفية. ويقال إن من بين المسائل الأخرى التي تسهم في تلبد الغيوم في سماء علاقات البلدين من وقت إلى آخر، مخاوف أنقرة من القوة النووية الإيرانية تحت التأسيس، ومخاوف طهران من عضوية تركيا في حلف الناتو، ناهيك عن مخاوفها من وجود قواعد أمريكية وإسرائيلية على الأراضي التركية.
سنترك تفاصيل حالات التلاسن والاتهامات المشار إليها جانبا بسبب كثرتها وتعدد المتورطين فيها، ونركز حديثنا في الاتهامات التي وجهها أخيرا نائب رئيس الحكومة التركية "ويسي كايناك" لطهران التي احتجت الأخيرة عليها كالعادة ووصفتها بالتصريحات غير المسؤولة والمغلوطة الهادفة إلى تحقيق أغراض سياسية. وكما يحدث في مثل هذه المواقف خرج كايناك في اليوم التالي ليرطب الأجواء ويقول إن أقواله أخرجت عن سياقها وجرى تحريفها من قبل وسائل الإعلام. فماذا قال المسؤول التركي يا ترى؟
صحيح أن أعدادا كبيرة من الأفغان يطمحون إلى الهجرة للخارج تخلصا من الأوضاع المأساوية التي تعيشها بلادهم المنكوبة بالحروب والإرهاب، لكننا لم نسمع، قبل تصريح كايناك أن ثلاثة ملايين أفغاني يستعدون للهجرة إلى أوروبا عبر الأراضي الإيرانية ثم التركية. وعلى حين ذكر كايناك أن طهران ستغض الطرف عن ذلك (هذا تحديدا ما أثار الإيرانيين وأغضبهم) فإنه لم يأت على ذكر كيفية تصرف بلاده مع المهاجرين الأفغان المزعومين، واكتفى بدعوة الأوروبيين إلى الحوار مع تركيا حول الموضوع، الأمر الذي فسره مراقبون كثر بـ "تهديد تركي مبطن لأوروبا" منطوقه تعالوا وتعاونوا معنا وإلا فسنغض نحن الطرف أيضا عن مرور الأفغان إلى بلادكم. وبطبيعة الحال يقرأ المرء في ثنايا هذه الدعوة محاولة تركية لترميم ما أفسده أردوغان حينما نعت حكومات دول أوروبية رئيسية بالنازية، فقط لأنها لم تسمح له بإقامة مهرجانات دعائية في أوساط المهاجرين الأتراك لمصلحة التعديلات الدستورية التي ينوي القيام بها.