توجهات تطوير التعليم .. وقضية التنمية
لا شك أن الإنسان هو جوهر التنمية ومحرك استدامتها، اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. هو الذي يطلقها، وهو المسؤول عنها، وهو القائم بالعمل على تحقيقها، وهو أيضا المستفيد من معطياتها. والطريق إلى التنمية يحتاج إلى المعرفة، فهي المصدر الذي يمكن الإنسان من تفعيل عمله، وأداء دوره المنشود في التنمية. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة في هذا العصر، حيث التنافس على توليد المعرفة وتجديدها تنافس غير مسبوق؛ وعلى كل أمة طموحة أن تدخل حلبة هذا التنافس وتشارك فيه من أجل تحقيق الطموح الذي تتطلع إليه.
مرجعية المعرفة تكمن في التعليم، فهو النشاط الرئيس المسؤول عن تزويد الإنسان بالمعرفة، وخصوصا المعرفة الحية التي تحتاج إليها التنمية. وهو أيضا النشاط المسؤول عن تحفيز التفكير لدى الإنسان لأن فيه تجديدا وتوليدا للمعرفة، وللمهارات اللازمة لتطبيقها ووضعها في خدمة التنمية. الاهتمام بالتنمية يحتاج إلى الاهتمام بالتعليم، بل إن التعليم هو القاعدة، وهو الأولوية اللازمة للتنمية. ولا بد لهذا الاهتمام من أن يكون مستمرا وخاضعا لمراجعات متواصلة تسمح له بالمرونة اللازمة في استيعاب متغيرات المعرفة الحية، والاستجابة لمتطلباتها.
على أساس ما سبق، فإن الحديث عن التنمية وعن التعليم الممكن لها حديث يبدأ، ولكن لا ينتهي، فعوامل تجدده لا تنضب. ولعلنا في هذا المقال نلقي الضوء على توجهات التعليم التي طرحها، هذا العام 2017، تقرير المنتدى الاقتصادي الدولي WEF الذي يحمل عنوان : "تفعيل إمكانات الإنسان في الثورة الصناعية الرابعة: برنامج للقادة من أجل مستقبل التعليم، ومشاركة المرأة، والعمل". ويعرف التقرير نفسه على أنه حصيلة حوارات دولية، وأنه موجه إلى الحكومات والشركات والجهات المهتمة بتفعيل دور الإنسان في عصر الثورة الصناعية الرابعة.
يعتبر التقرير أن الثورة الصناعية الرابعة تنطلق من التطورات العلمية والتقنية الكبرى التي يشهدها القرن الحادي والعشرين للميلاد؛ وعلى رأسها تطور "الذكاء الاصطناعي؛ وإنترنت الأشياء؛ وتقنية النانو؛ والتقنية الحيوية؛ وغير ذلك من مستجدات معرفية". وفي المعنى الواسع للقول إننا في الثورة الصناعية الرابعة، إشارة إلى ضرورة الاهتمام بالتجدد المعرفي المتواصل الذي يشهده هذا العصر، الذي يحتاج إلى مراجعة مستمرة لقضايا التعليم وقضايا العمل.
يطرح التقرير "ثمانية توجهات" يعتبرها أساسية في "تطوير التعليم"؛ ولعل الكلمة المستخدمة في التقرير تحمل معنى أكثر عمقا من كلمة "التطوير"، يصل إلى مستوى "التحول" Transformation. ولعل المقصود بذلك هو توجيه "مسار التطوير" نحو اهتمام أكبر وأكثر فاعلية بموضوعات توجهات التعليم الثمانية المطروحة.
يستهدف التوجه الأول المطروح في التقرير "التعليم الأولي" وتنشئة الأطفال، وتوفير البيئة التعليمية والسلوكية الملائمة، بل المعيشية أيضا، خصوصا عندما يكون الأب والأم من العاملين. ويدعو التقرير في هذا المجال جميع أصحاب العلاقة إلى التعاون، بما يشمل ليس فقط الأسرة والمدرسة، بل جهات العمل ذاتها التي تستطيع تنظيم أعمالها، والاهتمام بأسر عامليها، وتوفير البيئة اللازمة التي تساعدهم على تنشئة أطفالهم على أفضل وجه ممكن.
ويرتبط التوجه الثاني "بمناهج التعليم" وضرورة استجابتها "لمتطلبات المستقبل". ويشمل ذلك الاهتمام بالمعرفة الحية والمهارات التي يحتاج إليها الإنسان في حياته، والتركيز على نواحي التطور المعرفي المتسارع. ويضاف إلى ذلك العمل على تطوير طرق تقييم الطلاب، والتوجه نحو إجراء مراجعات دورية للمناهج تواكب التطور المعرفي الذي يشهده العالم. ويترافق التوجه الثالث مع سابقه، حيث يطرح موضوع "المدرسين" المناسبين لتنفيذ المناهج، وتوفير التأهيل والتدريب اللازم لهم، ودعم نشاطاتهم.
ويهتم التوجه الرابع "بتوفير تدريب أولي" للطلاب على العمل، لتطوير استعدادهم للعمل، وتوفير الخبرة الأولية لهم على ذلك. ويختص التوجه الخامس "بالأهلية الرقمية" للطلاب التي تحتاج ليس فقط إلى الجانب التعليمي والموارد البشرية اللازمة، بل تحتاج أيضا إلى البنية التقنية المناسبة. ويبرز هنا التوجه السادس الذي يركز على "التعلم مدى الحياة"، وتوفير الوسائل اللازمة لذلك سواء من خلال دورات متجددة يجري عقدها لتعزيز هذا التعلم، أو عبر مواقع إلكترونية، حيث تسهم الأهلية الرقمية في تفعيل التعلم مدى الحياة.
ويأتي التوجه السابع، بعد ذلك، ليستهدف "التعليم الفني والتدريب المهني"، وضرورة الاهتمام به، نظرا لأهمية مخرجاته للعمل في مختلف المجالات التطبيقية، وتفعيل التنمية وتعزيز استدامتها. ويدعو التقرير في هذا التوجه إلى توعية المجتمع بأهمية هذا التعليم، وتشجيع الشباب على الالتحاق به؛ كما يركز أيضا على ربطه باحتياجات السوق ووظائف القطاع الخاص. ويهتم التوجه الثامن في الختام بمسألة "الانفتاح على الابتكار في التعليم"، وتوفير فرص للتعليم والتعلم خارج إطار قاعات الدراسة التقليدية، وتشجيع الأفكار الجديدة في التعليم، وتعزيز العمل على تنفيذها. وتجدر الإشارة إلى أن التنمية تتطلب ارتباطا وثيقا بين توجهات تطوير التعليم من جهة، وموضوعات العمل والتوظيف من ناحية ثانية. وقد طرح التقرير المذكور هنا "موضوع الوظائف"، وطرح في هذا الشأن معطيات تتعلق بالنماذج الجديدة للوظائف، وتعليم الكبار وتأهيلهم بالمهارات المطلوبة لهذه الوظائف؛ كما تطرق أيضا إلى تحديث كل من: خدمات ما قبل التوظيف، وخدمات الضمان الاجتماعي. وتحدث التقرير بعد ذلك عن اقتصاد أسماه "اقتصاد العناية" الذي يركز على الاهتمام بالموظف وتفعيل إنتاجيته وقدرته على العطاء. ولعلنا نطرح هذا الموضوع في مقال قادم بمشيئة الله.
إن الاستفادة من أفكار الآخرين وخبراتهم ضرورة مارسها الإنسان عبر التاريخ حتى تراكمت الإسهامات المعرفية التي قدمتها الحضارات المختلفة، ووصلت إلى المعرفة المتاحة والمتداولة اليوم. ولعله من المفيد القول إن نقل المعرفة من الآخرين، مثل توجهات التعليم في التقرير المطروح أعلاه، والعمل على تطبيقها، يجب أن يتم عبر تفكير عميق وإجراءات ذهنية سليمة تسعى إلى أخذ ما هو مفيد مما قدمه الآخرون، في إطار متطلباتنا وأهدافنا. ليس هذا فحسب، بل السعي أيضا إلى إضافة أفكار وخبرات أخرى تناسب هذه المتطلبات والأهداف.
وعلى أساس ما سبق، فإن توجهات تطوير التعليم الثمانية الواردة هنا تستحق أن ننظر إليها ونأخذ منها المفيد لنا، ولا نكتفي بذلك فقط، بل نبحث أيضا عن كل ما يسهم في تطوير التعليم في بلادنا، ويوجهه نحو تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها.