الإدارة الاستراتيجية و«برنامج التحول 2020»

استراتيجية تعني حرفيا حسب اللغة اليونانية التي اشتقت منها الدهاء في المناورة العسكرية المصممة لتضليل أو خدعة أو مباغتة أو مفاجأة العدو لتحقيق الانتصار وبالتالي فإن التخطيط الاستراتيجي عادة ما يكون مرتبطا بالمخاطر وتزداد الحاجة إليه كلما زادت هذه المخاطر، والمخاطر أنواع فمنها السياسية ومنها الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الأمنية، والدهاء يتطلب تحليلا للوضع القائم من جذور قضاياه وتفاصيلها للوصول إلى تشخيص دقيق وحديث وشامل ومترابط لرسم صورة واضحة مترابطة الأجزاء للقضية أو الواقع للانتقال إلى مرحلة التفكير الاستراتيجي لإعداد الخطة ومن ثم تطبيقها.
من ينعم برغد العيش وتوافر جميع متطلبات الحياة بسهولة لن يحتاج إلى التخطيط الاستراتيجي لأنه سيتعب عقله وجسده دون حاجة، ولذلك كلما توافرت متطلبات العيش الرغيد وقلت منغصات الحياة، ترهلت العقول والأجساد ومن أجل ذلك ظهر مصطلح "لعنة الموارد الطبيعية"، حيث الاعتماد على الموارد الطبيعية بشكل أساس على حساب إضعاف النمو وتطوير قطاعات الاقتصاد الإنتاجية الأخرى كما هو الحال في الدول النفطية العربية على سبيل المثال، ولذلك نجد ندرة في القيادات والإدارات الاستراتيجية في هذه الدول إلا في قطاعات معينة تدور في فلك المخاطر وهي القطاعات ذات البعدين السياسي والأمني.
بعد انخفاض أسعار النفط الذي تزامن مع ارتفاع في الالتزامات نتيجة ارتفاع عدد السكان وتكاليف الرواتب وخدمات التشغيل والصيانة وكذلك المشاريع الجديدة التي يجب تطويرها لملاحقة متطلبات التنمية، باتت بلادنا السعودية تعاني مخاطر اقتصادية ما لم تتم معالجة الوضع القائم وتنويع مصادر الدخل بتفعيل إنتاجية جميع القطاعات الاقتصادية كما هو الحال في الدول التي لا تتمتع بموارد طبيعية ولذلك كانت "رؤية 2030" ومن ثم "برنامج التحول 2020".
إعداد البرامج التنفيذية الاستراتيجية وتفاصيلها وتطبيقها بالجودة المنشودة والزمن المحدد يتطلب إدارة استراتيجية قادرة على فهم «الرؤية» وبرامج التحول كخطط استراتيجية مُزمنّة ومن ثم إعداد الخطط التنفيذية التي تلي الاستراتيجية 2030 لتحقيق أهدافها كرفع الأداء الحكومي والخاص والأهلي، وخفض التكاليف، وزيادة الإنتاجية، وزيادة إيرادات الدولة وتنويعها، وتحسين جودة المنتجات والخدمات، وكل ذلك يتطلب موارد بشرية مؤهلة وممارسة ولديها تجارب في فهم الخطط الاستراتيجية وتطويرها وكذلك فهم في الإدارة الاستراتيجية لتحقيق التوافق بين القيادة الاستراتيجية والخطط المقدمة والإدارة الاستراتيجية القادرة على تنفيذ المنشود، وإلا ستكون هناك فجوة فالقيادة التقليدية لا تستطيع تنفيذ الخطط الاستراتيجية وإن ضغطنا عليها فالحُصان لن يتسلق الشجرة وإن حاصرته المخاطر.
على الرغم من أن الدراسات أثبتت أن المنظمات التي أخذت بمفهوم التخطيط الاستراتيجي فاقت تلك التي لم تعتمده في معدل الفائدة على رأس المال المستثمر، ومن ذلك الدراسة التي أجراها كل من (إيستلاك، ومكدونالد) فإن المنظمات التي استخدمت مفهوم التخطيط الاستراتيجي تميزت بمعدل نمو عال جدا في المبيعات والأموال، أكدت أن المنظمات التي أخذت بمفهوم التخطيط الاستراتيجي فاقت المنظمات التي لم تأخذ بهذا المفهوم في 13 مؤشرا من مؤشرات الأداء للمنظمة إلا أن كثيرا من القيادات ومديري العموم لدينا لا يؤمنون بنجاح الخطط الاستراتيجية ويرونها مضيعة للوقت والمال وعادة ما يتم العمل بأسلوب الإدارة التقليدي بأبسط صوره ‏بالاعتماد على التجارب والانطباعات الشخصية لتحليل وتشخيص الواقع ومن ثم رسم خطط بسيطة تعتمد على التجربة والخطأ لتحقيق الأهداف التي عادة ما تتحقق بتكاليف عالية وجودة منخفضة وبأوقات مضاعفة عن الأوقات المستهدفة، الأمر الذي جعل مخرجات موازنات هائلة وموارد بشرية كبيرة مخرجات هزيلة ومستوى الرضا عن الخدمات ضعيفا جدا.
أحد القيادات الاستراتيجية الذي يتمتع بفكر استراتيجي كسمة شخصية عززها بالدراسات والقراءة والدورات التأهيلية يقول إن غياب الإدارة الاستراتيجية القادرة على تحويل التفكير بـ (ماذا نعمل) الذي هو من مسؤولية القيادة الاستراتيجية إلى (كيف نعمل) جعل من الخطط الاستراتيجية شبه الحبر على الورق فالعمل يسير ببطء شديد وإن كان في المسارات الصحيحة أحيانا، حيث تنحرف الإدارات التقليدية عن المسارات الاستراتيجية في كثير من الأحيان لعدم وعيها بأن الاستراتيجية تتمحور حول المسارات الاستراتيجية المحددة وطريقة الوصول إلى الهدف بتطبيق مفاهيم المنافسة، وتميز الأداء المقرون بالإبداع والابتكار كأبعاد ثلاثية مترابطة في إعداد الخطط الاستراتيجية وبرامجها التنفيذية ومن ثم تنفيذها في السياقات القائمة والمستقبلية بما تحمل من فرص محفزة ومخاطر معيقة.
ويضيف أن نعمة الإيرادات النفطية في السنوات السابقة جعلتنا في حالة من الاسترخاء الذهني حيث الموازنات الكبيرة التي تمكننا من تحقيق الأهداف وإن كان ذلك خارج النطاق الزمني وبجودة رديئة حيث غياب مؤشرات الأداء والمساءلة والعقوبات، ولكننا اليوم أصبحنا أمام تحديات كبيرة وبشكل مفاجئ وعلينا رفع مستوى الأداء وتحقيق الأهداف في أوقاتها وبالجودة المستهدفة في إطار رقابة شديدة ومساءلة حكومية وشعبية في الوقت ذاته، الأمر الذي جعل القيادات تبحث عن الكفاءات كمعيار بعد أن كانت الصلات هي المعيار الأقوى ومن ثم تكليفها بالأعمال والاعتماد عليها.
ويضيف أنه على الرغم من هذا التحول الإيجابي فإن ندرة الكفاءات البشرية المتميزة في مجال الإدارة الاستراتيجية القادرة على استيعاب الخطط الاستراتيجية ذات الأفكار الإبداعية والمسارات الاستراتيجية الدقيقة والمناسبة ومن ثم تحويلها لبرامج تنفيذية استراتيجية تقوم على الحنكة والدهاء والإنجاز دون أعذار، ندرة الموارد ستجعل من تحقيق الأهداف في أوقاتها وبالجودة المستهدفة أمرا صعبا وغير ممكن وبالتالي ستكون هناك نسب إنجاز تحوم حول المتوسط ما لم تتم معالجة مشكلة ندرة القيادات والإدارات الاستراتيجية بأسرع وقت كعنصر حاسم في تحقيق "رؤية 2030" و"برنامج التحول 2020".
لذا أتطلع إلى أن تطلق وزارة الاقتصاد والتخطيط برنامجا وطنيا لتأهيل القيادات والإدارات في مجال تخطيط وتنفيذ الاستراتيجيات التي باتت ضرورة لمضاعفة الإنتاجية ورفع جودتها وخفض تكلفتها وتحقيق الأهداف في أوقاتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي