استغناء الأمريكان عن بترولنا حكاية قديمة
مر بنا خلال العقود الخمسة الماضية كثير مما كانت تتناوله وسائل الإعلام المختلفة حول موضوع إمكانية استغناء أمريكا عن بترول الشرق الأوسط، كهدف أساس ضمن سياسة أي رئيس جديد للولايات المتحدة، والرئيس ترمب ليس استثناء. وهي محاولة يائسة من أي منتخب للرئاسة، تتسم في الغالب بتغلب العاطفة على العقل. وكثيرون، خارج الولايات المتحدة ، يصدقون أنه بإمكان أمريكا الاكتفاء الذاتي من الطاقة الهيدروكربونية. نحن بدورنا لا يجب أن نأخذ مثل تلك الأقوال والتصريحات على محمل الجد. بل نؤكد، بناء على المعطيات الحالية والدلائل المتوافرة، أن أمريكا لا تملك القدرة على رفع إنتاجها أعلى بكثير من المستوى الحالي، حتى مع النمو المحدود المرتقب للإنتاج الصخري. والوعود الرئاسية الرنانة، التي يعيد نغمتها كل رئيس جديد، لا تعني أكثر من إصدار ترخيص لشركات البترول لتبدأ البحث والاستكشاف والتنقيب في مساحات ما يسمى بالأراضي الفيدرالية، برا وبحرا. ووجود مواد هيدروكربونية بكميات تجارية تحت أعماق تلك المناطق الفيدرالية حتى الآن غير مؤكد، حسب علمي. والطريقة الوحيدة التي ستؤكد وجود البترول والغاز من عدمه بكميات تجارية هي عملية الحفر. وعملية المسح الزلزالي والحفر وإنشاء مرافق الإنتاج والبنية التحتية المكلفة يستغرق سنوات طويلة، قد تزيد على عمر الرئاسة لأي رئيس أمريكي. وبالنسبة إلى وضع البترول الحالي، ففي الوقت الذي سيكون فيه الإنتاج الأمريكي الجديد جاهزا، إذا حالفهم التوفيق ووجدوا كميات كبيرة في المناطق المذكورة، فستكون كثير من عوامل السوق السائدة اليوم قد تغيرت وتبدلت لغير مصلحة الولايات المتحدة. ومنها بلوغ البترول الصخري الذروة.
تستهلك أمريكا يوميا ما يقارِب 19 مليون برميل من المشتقات البترولية. منها ما يزيد على 12 مليون برميل إنتاج محلي. فهي تنتج تسعة ملايين برميل بترول خام، نسبة كبيرة منه بترول صخري. وينتجون تقريبا أربعة ملايين برميل مكثفات غازية. ومعدل ما يستوردونه في حدود ستة إلى سبعة ملايين برميل في اليوم، معظمها من دول الجوار، كندا وفنزويلا والمكسيك. كما أنهم لا يزالون، وسيظلون يستوردون كميات كبيرة من خارج أمريكا الشمالية، بما في ذلك دول الشرق الأوسط، والخليج بالذات. ومع أن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية تتوقع وصول إنتاج البترول الصخري الأمريكي إلى سبعة ملايين برميل كحد أعلى خلال العقدين المقبلين، إلا أن الاحتمال شبه المؤكد في نظرنا هو زيادة اعتماد الاقتصاد الأمريكي على البترول المستورد وليس العكس. على الرغم من المجهود الكبير المستدام الذي تبذله الحكومة والرغبة الملِحة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة. وذلك بسبب النضوب المستمر في حقول البترول الحالية، في غياب اكتشافات جديدة ذات قيمة تجارية. ولدى أمريكا ثلاثة أنواع من الاحتياطي البترولي. احتياطي البترول التقليدي، وهو ما تبقى من الحقول القديمة التي كانت تمد أمريكا منذ اكتشاف البترول، ويبلغ 24 مليار برميل. واحتياطي البترول الصخري الذي قد يزيد على 50 مليار برميل. وهم ينتجون اليوم من الأماكن الأفضل، وهو ما يزيد من احتمال ارتفاع التكلفة مع مرور الوقت. ولدى أمريكا نوع ثالث من البترول غير التقليدي بكميات هائلة، قد يبلغ احتياطيه أكثر من تريليوني برميل. ويوجد فوق سطح الأرض على الهيئة الصلبة، مختلطا مع الصخور، وإنتاجه في الوقت الحاضر غير مربح اقتصاديا، وينتظر دوره عندما تصل الأسعار إلى مستويات قياسية، ربما في حدود 130 دولارا للبرميل فما فوق. وهو شبيه بأنواع أخرى في أكثر من موقع خارج أمريكا، منها المملكة الأردنية والمغرب العربي.
ولا شك أن كل دولة تود لو كانت تمتلك ما يغنيها من الطاقة البترولية عن الاستيراد والاعتماد على مصادر خارجية، وهو أمر طبيعي. أما أن يصاحب عدم توافر اكتفاء ذاتي من الطاقة شيء من التشنج والضجة الإعلامية، كما هو حاصل اليوم في أمريكا، فهو تصرف يدعو إلى الاستغراب. فأمريكا ليست فقط دولة عظمى، بل هي زعيمة العالم أجمع ولديها من الموارد الطبيعية والبشرية ما يجعلها في مأمن من نوائب الدهر. ومقايضة ما لديها من مواد صناعية ومنتجات مختلفة وخدمات مع ما تحتاج إليه من مصادر الطاقة شيء طبيعي، كما تفعل معظم دول العالم. أما التظاهر بأن اعتمادها ولو بنسبة متواضعة من حاجتها الطاقوية على مصادر خارجية يهدد أمنها القومي ففيه كثير من المبالغة. لكنها الكبرياء الأمريكية المعروفة هي التي تسيطر على عقلية بعض المسؤولين هناك. ويصورون شراء ما يحتاجون إليه من بترول الشرق الأوسط، والخليج العربي بالذات، تهديدا لأمنهم، مع أنه لا يعدو كونه تبادلا تجاريا. ومن المؤكد أن الميزان التجاري بين أمريكا وبين دول الخليج يميل إلى مصلحتهم، فلماذا تهويل الأمر واعتباره مسألة تمس الأمن القومي؟ وقد يحتج البعض بما حدث عام 1973 عندما أعلنت بعض الدول العربية عن إيقاف تصدير البترول لفترة وجيزة إلى دول بعينها لاتهامها بالانحياز ضد مصالحنا دون مبرر. وكان إجراء احترازيا لم يدم طويلا ولم يؤثر على الإطلاق لا في الاقتصاد الوطني لتلك الدول ولا ترك أثرا سلبيا في حياة المواطنين. وكل ما حصل كان نتيجة لتضخيم الإعلام الغربي لما حدث، رغم بساطته وقصر زمنه. ولا يمكن مقارنة تلك المقاطعة التي تم تنفيذها على استحياء وانتهت بسلام، مع ما تمارسه أمريكا والدول الغربية من مقاطعات اقتصادية متكررة بحق شعوب بريئة وفقيرة، وتترك أثرا سلبيا في حياتهم، خصوصا الأطفال.