رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


كبر أحجام الجامعات مدعاة لاختراقها

هناك أضرار كبيرة وسلبيات عديدة لضخامة أحجام المنظمات، كثير منها لا ترى من قبل القيادات ولا تتضح أضرارها في المدى القريب. كبر أحجام المنظمات ومنها الجامعات يقود إلى مشاكل إدارية وإخفاقات تنظيمية ومخاطر أمنية، وهذا مدعاة لاختراقها. وقد ناقشت هذا الموضوع من قبل وركزت على أهم ضرر وهو الترهل الإداري، وأريد في هذا المقال أن ألقي الضوء على جانب آخر لا يقل خطرا عن الترهل.
من أضرار كبر أحجام الجامعات عدم وضوح المرجعية، بمعنى أن القيادات الرسمية ليست المحرك الفعلي للسلوك التنظيمي داخل الجامعات بل تدار من خارج بيئتها التنظيمية. تظن القيادات الأكاديمية في الجامعات المترهلة أنها تحكم عملية الرقابة على السلوك التنظيمي، إلا أن هناك تيارا خفيا يدير نفسه بنفسه ويوجه القرارات لمصالح شخصية دون معرفة القيادات الأكاديمية.
أنا لا أدري لماذا تعشق منظماتنا ومنها مؤسسات التعليم العالي التوسع وزيادة المستويات الإدارية بدلا من أن تسعى إلى تشذيب أطرافها واختزال أقسامها وتصغير أحجامها؟ الهيكلة الحالية لوزارة التعليم زادت من حملها وأثقلت وزنها حتى أصبح المسؤولون فيها لا يدرون ما يدور في داخلها؟ ولا يدرون من أين يبدؤون؟ وإلى أين يتجهون؟ وما أولوياتهم؟ وأين النقاط الحرجة.. وغيرها؟ هم في حيرة هل يقومون بترميم الخروقات التنظيمية، أم تطوير المناهج الدراسية، أم تدريب الموارد البشرية؟ وهل يركزون على سلوك الطلاب، أم سلوك أعضاء هيئة التدريس، أم السلوك التنظيمي برمته، أم مراقبة الأفكار الضالة؟ القيادات الأكاديمية محتارة هل ينصب الاهتمام على كليات البنين أم تعليم البنات؟ ظلمات بعضها فوق بعض.
مهمة الجامعات بوضعها الحالي معقدة للغاية، ولن تحقق أهدافها وتحتفظ برسالتها وهي تعاني آفة الترهل، وما الاختراقات الحالية للجامعات إلا بسبب كبر حجمها وصعوبة الإلمام بأطرافها ومؤسساتها.
وزارة التعليم بهيكلتها الحالية لم تعد تلك الوزارة الرشيقة؛ فالأمر لا يقف عند دمج وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، بل تمت إضافة إلى الصرح الضخم، الرئاسة العامة لتعليم البنات وكليات المعلمين وكليات المجتمع، ولهذا فوزارة التعليم بوضعها الحالي تضم بين جنباتها أربع منظمات كانت في السابق وزارات مستقلة، فقد أصبحت ضخمة جدا وأصابها الترهل قبل أن تبدأ، وهذا عيب تنظيمي يجعل اختراقها أمرا ممكنا.
المؤسسات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية الصناعية منها والخدمية تسعى في الفكر الإداري الحديث جاهدة إلى تقليص وتهذيب إدارتها وفروعها بين الوقت والآخر حتى تكون أصغر ما يمكن؛ لأن هناك مميزات كبيرة وإيجابيات متعددة لصغر حجم المنظمة منها تقارب خطوط الاتصال بين المستويات الإدارية والتعرف على الانحرافات وإحكام السيطرة عليها مبكرا، وكذلك إمكانية المنظمات الصغيرة من السير بسرعة عالية، وهذه الخصائص جميعها لا تستطيع أن تقوم بها المنظمات كبيرة الحجم. وقد بينت في مقال سابق أنه ينبغي على المنظمات الحكومية وغير الحكومية أن تشذب نفسها بين الفينة والأخرى "عادة ما تكون كل خمس سنوات" حتى تبعد نفسها عن آفة المنظمات وداء المنشآت، وهو الترهل الذي إذا أصاب شركة أو وزارة أو جامعة تمكنت منها الأمراض الإدارية وسرت في جسدها الأوبئة التنظيمية.
وما فتئ جاك ولش الرئيس التنفيذي الأسبق لشركة "جنرال إلكتريك" ـــ صاحب نظرية مبادئ القيادة ــــ ينادي بتقليص حجم المنظمات وتشذيبها حتى تبقى شابة ورشيقة. وقد سعى فعليا إلى تهذيب وتشذيب "جنرال إلكتريك" حتى أنه خلال عام واحد باع أكثر من 100 مصنع وسرح أكثر من 150 ألف موظف، وعندما سئل عن فعلته هذه أفاد بأنه يريد لـ "جنرال إلكتريك" أن تسير بسرعة 150 ميلا في الساعة، وهذا لن يتحقق إلا بمحاربة الترهل وتعهد الوضع التنظيمي للشركة حتى أصبحت عادة ولش هذه سنة لـ "جنرال إلكتريك" تسير عليها حتى يومنا هذا؛ فتم تحويلها من شركة عجوز إلى منظمة رشيقة تسابق الريح، وحذت حذوها شركات أخرى كـ "مايكروسوفت" و"كوداك".
من هذا العرض يتبين لنا أن بقاء الجامعات بهذا الشكل ليس فقط مدعاة للاختراق بل أيضا للفساد والتكتل والاختراقات الفكرية، ناهيك عن تدني جودة خدماتها لأن الجامعات غائبة عن الأنظار وبعيدة عن الرقابة ولا يعرف لا المجتمع ولا المسؤولون أيضا ما يدور بداخلها، ولو رأت هذه المنظمات الفساد يدب في أطرافها فلن تستطيع تحريك ساكن. لذا أرى أنه ينبغي استقلالية الجامعات استقلالا كاملا عن وزارة التعليم يشرف على كل جامعة مجلس أمناء يعين ويقيل ويحاسب القيادات الأكاديمية. الجامعات بوضعها الحالي بدينة ومترهلة فلا يكفي استقلاليتها بل ينبغي أن تتبنى آلية التشذيب الذاتي ما بين الوقت والآخر؛ فهذا يمكن من سهولة إدارتها وقيادتها ومراقبتها. وإن تعذر ذلك فيمكن إعادتها إلى سابق عهدها تحت مظلة وزارة مستقلة، ولكن يترك لها درجة كافية من الحرية في ترتيب أمورها الداخلية وطرائقها التشغيلية وقراراتها الاستراتيجية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي