ما أنسب استراتيجية طويلة المدى للإنفاق الحكومي؟
ليس من السهل الوصول إلى سياسة حكيمة لميزانية الدولة بشقيها الإيراد والإنفاق في بلادنا على المدى البعيد خاصة. ليس فقط بسبب شدة اعتماد ميزانية الدولة أو بتعبير آخر المالية العامة على دخل ناضب مع الوقت. بل أيضا بسبب تقلب الإيرادات مع شدة تغير أسعار النفط مقرونة بصعوبة توقعها. وتزيد المشكلة مع وجود تكاليف باهظة لتكيف فئات المجتمع أفرادا ومنشآت مع الرفع أو الخفض الكبير السريع للإنفاق الحكومي. ويثار أحيانا سؤال عن أنسب طريقة لتوزيع الدخل النفطي مع الوقت ليعم نفعها الأجيال القادمة.
جرت محاولات منهجية، وليس مجرد خواطر وسواليف تقال على مقاعد وثيرة أو عبر "تويتر" أو "واتساب". قام بالمحاولات المنهجية باحثون في جهات معتبرة. انظر مثلا ورقة لصندوق النقد الدولي بعنوانOptimal Fiscal Strategy For Oil Exporting Countries, IMF, 2000. وهي متاحة على النت. ويبدو لي أن وزارة الاقتصاد استعانت و/أو تستعين بماكنزي في هذا الشأن. ولكن ليس لدي علم يعتمد عليه عن هذه الاستعانة، ولا في مستوى وقدرات من استعانت بهم الوزارة.
تتركز المحاولات من وجهة اقتصاد المالية العامة في أربع خطوات، ويتطلب فهمها وبناؤها خلفية جيدة في الاقتصاد وتطبيقاته الرياضية والإحصائية القياسية.
الخطوة الأولى تبدأ بوضع افتراضات مبسطة قدر الإمكان عن سلوك المجتمع. وتوضع الافتراضات في بنية رياضية قابلة للقياس الإحصائي. والهدف محاولة محاكاة وقياس رفاهية أو مصلحة المجتمع. وللتوضيح المقصود مصلحة المجتمع كله ككيان واحد وليس مصلحة فئة منه.
الخطوة التالية تحديد الأدوات المتوافرة للحكومة وتوضيح الموانع والقيود التي تواجهها.
والخطوة الثالثة وضع افتراضات مبسطة حول سلوك منشآت القطاع الخاص والموانع والقيود التي يواجهونها.
والخطوة الرابعة محاولة الحصول على قيم للأدوات المتوافرة للحكومة التي تعطي أعلى مصلحة للمجتمع كله وليس فئة منه على المدى البعيد خاصة، أخذا بعين الاعتبار الافتراضات والموانع والقيود السابقة التي تواجه العوائل والحكومة والقطاع الخاص.
كيف يمكن تحقيق الخطوة الأخيرة الرابعة بعيدا عن التقديرات والأهواء الشخصية؟ عبر بناء نموذج مبسط رياضي أي بالرياضيات. وتعطينا حلول النموذج ما يمكن أن يسمى الطريق الاستهلاكي الأنفع للوطن "أي جميع فئاته" عبر الأجل البعيد.
وزيادة توضيح عن الخطوة الرابعة، مطلوب بناء نموذج يساعد على تطوير قواعد أو مبادئ للسياسة المالية العامة التي تأخذ بعين الاعتبار:
أولا: تحقيق أقصى منفعة من دخل النفط تستفيد منها الأجيال وليس للجيل الحالي فقط.
ثانيا: المساعدة على رسم أنسب ادخار نظرا للطبيعة المتقلبة لدخل النفط.
وثالثا: سرعة التأقلم أو التكيف أخذا بعين الاعتبار وجود تكلفة للتكيف.
البناء الذي يحقق ما سبق يمكن اعتباره علامة أو دالة على مصلحة المجتمع عبر الوقت، أي على مصلحة عدة أجيال، وليس في وقتنا أو جيلنا الحاضر فقط. وهنا مزيد نقاط:
1 - يفضل الناس تناغم وانسجام الاستهلاك مع الوقت، أي لا يحبون تغيرات فجائية. لكن تقلبات أسعار النفط تصنع دخلا جزء منه لا يتسم بالاستمرارية. وتبعا لذلك، ينبغي أن يكيف أو يوجه الاستهلاك بما يتلاءم مع التغيرات في الدخل. وتبعا لذلك، عند اكتشاف احتياطيات نفطية جديدة، فإنه ينبغي إجراء تعديل/تكييف سريع في السياسة المالية، لتعديل مسار الاستهلاك. يعمل التعديل أيضا في حال تغير أسعار النفط.
2 - تكلفة التكيف أو التعديل تزيد عند حدوث تغيير كبير في الإنفاق الحكومي خلال فترة قصيرة نسبيا.
3 - عندما يتوقف نمو دخل النفط، فإن على الحكومة نقل بعض إيرادات النفط الحالية إلى القطاع الخاص والاستثمار في البنية التحتية وتوفير بعض دخل النفط. ويتبع ذلك مقترح عمل صندوق تثبيت لمواجهة الأوضاع الفجائية أو عند تدهور دخل النفط لأي سبب.
يمكن فهم عقلانية ورشاد التصرفات السابقة من نصيحة يوسف عليه السلام لملك مصر.
كيف يمكن تحقيق ما سبق؟ هل يسمح بناء الميزانية؟ هل تساعد الأوضاع والثقافة السائدة؟ موضوعات مستقلة للبحث.