رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


كازاخستان.. لماذا الإصلاح الآن؟

جمهورية كازاخستان هي الأكبر مساحة والأكثر تميزا لجهة النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي ضمن الجمهوريات الإسلامية الأخرى في آسيا الوسطى التي انسلخت عن الاتحاد السوفياتي بعد انهيار الأخير وهي أوزبكستان وطاجيكستان وقرقيزستان وتركمانستان. ولئن كان تميزها الاقتصادي يعزى إلى ثروات البلاد من النفط والغاز والمعادن والفحم معطوفا على ما ورثته من الاتحاد السوفياتي السابق في مجالات التصنيع والعلوم والكوادر الوطنية المدربة ونسبة المتعلمين (95 في المائة من السكان)، فإن عامل الاستقرار مرده القبضة الصارمة لنظام الرئيس "نور سلطان نزارباييف" الذي تولى الرئاسة في عام 1990 ثم أعيد انتخابه مذاك بأغلبية تجاوزت 90 في المائة في جميع الانتخابات الرئاسية التالية.
في الدوائر الغربية لطالما وصف نزارباييف بالديكتاتور المتسلط الجامع لكل السلطات في يده، نعتت أسرته وبطانته بالفاسدين، وانتقد نظامه لعدم شفافيته وقمعه للإعلام والإعلاميين. وإذا ما اعتمدنا هذه التوصيفات الغربية فهي تنطبق على كل زعماء وأنظمة جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى دون استثناء، لكن ما يميز نزارباييف أنه سلك إلى حد ما مسلك المستبد العادل أو الديكتاتور الذي قد يقسو لكن بهدف حماية بلاده ومواطنيه من الفوضى والدمار، وقد يستفيد شخصيا من بعض ثروات البلاد لكن يستثمر الكثير منها بالتزامن في رفاهية شعبه ونهضة بلاده. ومن هنا نجحت كازاخستان، على العكس من جاراتها، في إشكالية المفاضلة بين الأمن والرخاء من جهة والديمقراطية والحريات من جهة أخرى، فصارت تتمتع بمناخ سياسي مستقر يصاحبه نمو اقتصادي ومعيشي مضطرد، بل نجحت أيضا في جذب الاستثمارات الأجنبية وإيجاد حضور فعال لنفسها على الساحتين الإقليمية والدولية.
لقد حمى نزارباييف بلاده من آفة التطرف والغلو الديني والإرهاب السائدة في منطقة آسيا الوسطى، وهي آفة انتقلت من أفغانستان ووجدت بيئة تحتضنها بحكم التداخل العرقي والثقافي، عبر اتباع سياسة مزدوجة تقوم على رعاية التعددية الدينية والعرقية والثقافية ودمجها من جهة، وفرض قيود مشددة على أنشطة الجماعات الدينية غير المرخصة من جهة ثانية. وحوّل عاصمته الجديدة "أستانا" إلى مدينة تستضيف كثيرا من المؤتمرات والقمم والمنتديات الإقليمية والدولية، فذاع صيتها. ونقل بلاده إلى مصاف الدول المحترمة في المجتمع الدولي بموافقته الطوعية على التخلص من ترسانة الأسلحة النووية الضخمة التي ورثتها كازاخستان من الاتحاد السوفياتي.
أما فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية ورفع مستويات المعيشة فتخبرنا الإحصائيات المتوافرة أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي قد قفز منذ الاستقلال من 700 دولار إلى 12500 دولار، وهو ما يعادل مثيله في ماليزيا، وأن البلاد صارت اليوم ضمن الدول ذات الدخول المتوسطة العليا حسب تصنيف البنك الدولي، وأنها تستحوذ على 70 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المتجهة إلى منطقة آسيا الوسطى، وأن احتياطاتها النقدية وصلت اليوم إلى نحو 100 مليار دولار. ولهذا أطلق البعض على كازاخستان مجازا اسم "سنغافورة السهول"، تمييزا لها عن سنغافورة المحيط.
ما سبق كان مدخلا للحديث عن تطور مفاجئ شهدته هذه البلاد أخيرا، ما جعل المراقبين يدلون بآرائهم وتفسيراتهم المتباينة حوله. ونعني بهذا التطور قرار الرئيس نزارباييف التنازل عن جزء من صلاحياته للبرلمان والحكومة في خطوة غير مسبوقة. أما التفسير الرسمي فيقول ما مفاده إن قرار الرئيس بإجراء تعديلات دستورية يفوض بموجبها البرلمان باعتماد القوانين والتشريعات وتشكيل الحكومة (فيما عدا تسمية وزراء الدفاع والداخلية والخارجية)، ويفوض الحكومة باعتماد السياسات الاقتصادية، ما هو إلا "دليل على نضج منظومة الدولة" وثباتها وترسخها إلى درجة لم تعد بحاجة إلى تحكم الرئيس في مفاصلها كافة.
وعلى الرغم من ظهور من شكك في هذا التطور وعّده بمثابة محاولة من نزارباييف للتهرب من المسؤولية وتحميلها للحكومة والبرلمان، فإن هناك من يعتقد أن في البيان الرسمي بعضا من الصحة، أو يعتقد أن ما حدث مجرد خطوة على الطريق الصحيح لجهة الإصلاح السياسي التدريجي، خصوصا إذا ما علمنا أن نزارباييف عمد، منذ تخليه عن الشيوعية والاشتراكية، إلى دراسة التجربة السنغافورية وقراءة فكر صاحبها العبقري "لي كوان يو". فالأخير، كما هو معروف، كان من دعاة مبدأ القيادة الصارمة إلى حين، بمعنى ترك الديمقراطية وما يتبعها من مظاهر على الرف إلى حين تحقيق مستويات معيشية لائقة ودرجات معينة من التنمية والرخاء والتعليم أولا، ومن ثم تدشين الإصلاحات السياسية تدريجيا. وهذا ما فعله ونجح فيه إلى درجة أن السنغافوريين بدوا غير مكترثين بتلك الإصلاحات يوم أن تم تدشينها لانتفاء أغراضها في تطوير أحوالهم المعيشية والخدمية، ولاقتناعهم بأن الديمقراطية ليست هدفا في حد ذاتها وإنما مجرد وسيلة.
المعروف أن "لي كوان يو" بسبب وقوفه خلف المعجزة السنغافورية تخلد اسمه وصار رمزا من رموز النهضة والتقدم في جنوب شرق آسيا، بل صارت تجربته ملهمة للآخرين حول العالم. وهنا أيضا، ربما أراد نزارباييف من خلال قراره الأخير أن يخلد اسمه ودوره التاريخي في قيادة كازاخستان كبلد مستقر ومزدهر. ودليلنا هو أن التعديلات الدستورية المشار إليها رافقها مقترح بتضمين الدستور مادة تنوه بإنجازات " الرئيس نور سلطان نزارباييف، مؤسس كازاخستان المستقلة " وتمنحه صفة "قائد الأمة" ذي الحصانة المطلقة الذي لا يجوز المساس بمقامه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي