ثلاثية التخطيط للمستقبل
لا شك أن المستقبل غيب لا يعلمه إلا الله، لكننا مطالبون بالتفكر والتدبر، وبأن نعقل ونتوكل، ونكون من أولي الألباب، وأن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا، ونعمل لآخرتنا كأننا نموت غدا. من هذا المنطلق، لا بد لنا من التخطيط للمستقبل، وهو ما يعرف على أنه "محاولة للتأثير في أحداث المستقبل، والسعي إلى التحكم فيها". ويوصف التخطيط بالاستراتيجي حينما يتضمن تحديد الأهداف ورسم التوجهات اللازمة للعمل على تحقيقها؛ ثم يوصف بالتنفيذي حينما يطرح مهمات على خطى التوجهات، ويبين آليات التعامل معها، ويطلق مشاريع متكاملة، تعمل على تنفيذها، ضمن إطار زمني محدد، نحو الوصول إلى الأهداف المرجوة.
يدعى الكيان الذي يخطط لنفسه بـ"الوحدة الاستراتيجية"، وتبدأ هذه الوحدة بالإنسان، ثم الأسرة، فالمؤسسة، وصولا إلى المجتمع والوطن، بل العالم بأسره، تبعا للتطلعات على مستوى كل من هذه الوحدات. والقاسم المشترك بين جميع الوحدات الاستراتيجية، على مختلف مستوياتها، هو الإنسان، فهو الذي يخطط لذاته، ويشارك في التخطيط لمؤسسته، ولوطنه، وربما للعالم بأسره؛ ولا تقتصر مسؤوليته على التخطيط فقط، بل تتضمن التنفيذ أيضا. فالتخطيط مهما كان متميزا يبقى أوراقا متناثرة إذا لم ينفذ؛ والتنفيذ دون تخطيط سليم مسبق، يبقى دون ضوابط تحميه من الأخطاء والمخاطر.
والتخطيط بطبيعته نشاط فكري استباقي يرتبط بثلاثية "الحقائق والأفكار والتوجهات" التي تحدثنا عنها في مقال سابق. ولأنه يستهدف التأثير في أحداث المستقبل والتحكم فيها، فهو يحاول استيعاب "الحقائق" القائمة، ويسعى إلى تطوير ما يستهدف منها؛ وهو ينظر في "الأفكار" المتاحة، ويسعى إلى إدراكها وفهم تأثيراتها، وربما يبدع أفكارا جديدة يضعها في خدمته أيضا. وانطلاقا من الحقائق والأفكار، ومن التطلعات المأمولة، يتم وضع الأهداف و"التوجهات" التي تمثل الاستراتيجية؛ ثم على أساسها يجري بناء الخطط التنفيذية، وإطلاق آلياتها ومشاريعها.
والحقائق نوعان: نوع يشمل الحقائق الثابتة، غير القابلة للتغيير، مثل وجود الشمس والكواكب وحركتها، ومثل المعتقدات والمبادئ الراسخة؛ ونوع آخر يتضمن حقائق متغيرة قابلة للتطوير إلى الأمام إيجابا، وقابلة للتراجع إلى الوراء سلبا، مثل حقائق مستويات التعليم ونوعياتها، ومثل نسب التوظيف، والإنتاجية، والدخل، والخدمات بشتى أنواعها، وغير ذلك. وتستهدف "التوجهات" عادة تطوير الحقائق المتغيرة نحو الأفضل. وهنا لا بد من الاستعانة "بالمؤشرات" التي تقيس ليس الحقائق فقط، بل حالة تطورها أيضا، ومدى ابتعادها أو اقترابها من الوصول إلى الحقائق المستهدفة.
ويعتبر قياس الحقائق، وسيلة مهمة لإدراكها والتوجه نحو تطويرها. وقد عبر اللورد كالفن أحد علماء القرن التاسع عشر للميلاد عن ذلك بالقول "إن لم تستطع قياس أمر ما، فلن تستطيع تطويره". ولكن، من ناحية أخرى، إذا أغرقنا أنفسنا، أكثر مما يجب، في حب القياس ووضع المقاييس، وإجراء القياسات، نجد أننا يمكن أن نصل إلى الحالة التي وصفها أينشتين، صاحب نظرية "النسبية" والعالم الأشهر في القرن العشرين، بالقول "ليس كل ما يقاس يستحق القياس". أي أن علينا أن نقيس، ليس كل ما يقاس، بل ما يستحق القياس، وما يمكن أن نستفيد منه.
ولعل بين ما يستحق القياس أثر الأفكار، بما فيها من إبداع وابتكار، على تطوير الحقائق؛ وربما مقارنة أثر أفكار معينة في تطوير حقائق مستهدفة، مقارنة بأثر أفكار أخرى فيها. ومثال ذلك، قياس أثر التعليم "التلقيني" في حقائق تحصيل المعرفة واستيعابها، مقارنة بأثر التعليم "الحواري" في هذه الحقائق. وهكذا نجد أن القياس لا يعطي الحقائق القائمة فقط، بل يقيم الأفكار أيضا تبعا لأثرها ونتائجها.
ويحتاج التخطيط ليس فقط إلى توجهات ثابتة باتجاه الأهداف المرجوة، بل إلى توجهات بديلة أيضا وباتجاه الأهداف ذاتها. فالتخطيط، وهو ينظر إلى المستقبل المجهول، يضع توجهات تخضع لحقائق وأفكار قابلة للتغيير، وبالتالي لن تكون صالحة في كل الأحوال، وعلى ذلك فإن وجود توجهات بديلة تأخذ في الاعتبار تغيرات محتملة، يثري التخطيط، ويعطي خططا أساسية وبديلة، تقود بثقة أكبر نحو تحقيق الأهداف المرجوة.
وبالطبع فإن مخرجات التخطيط هي الخطط، وهناك من يميز بين الاثنين، خصوصا في المجالات التي يمكن أن تتغير فيها الحقائق بسرعة، كما هو الحال في المجال العسكري. وهناك في هذا المجال قول مأثور للجنرال آيزنهاور قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ورئيس أمريكا، فيما بعد، والقول هو: "قد لا تكون الخطط ذات فائدة، لكن التخطيط ضرورة لا بد منها". ولعل المقصود هنا هو أن التخطيط، "كتفكير استباقي يستوعب الحقائق ويطرح الأفكار ويبحث في التوجهات"، ضرورة وجاهزية للتعامل مع ما يجري، حتى وإن فرضت المستجدات حالات جديدة تمنع تطبيق الخطط، وربما الخطط البديلة أيضا، التي تم التوصل إليها.
ولا شك أن التخطيط ضرورة ليس فقط في مجالات محددة، بل في جميع المجالات، وليس على مستوى محدد واحد، بل على جميع المستويات. ويضاف إلى ذلك أن التخطيط على مستوى المجتمع يحتاج إلى نظرة تكاملية تضم مجالات متعددة من جهة، وتشمل مستويات مختلفة من جهة أخرى. فتنمية المجتمع تعني تنمية الإنسان، وتوظيف إمكاناته، وتحفيز نشاطه، وتفعيل إنتاجيته، وتعزيز سعادته، وتهيئة البيئة المناسبة لكل ذلك؛ وتعني أيضا أن يتم ذلك في مختلف المجالات، وعلى المستويات كافة.
وإذا كنا نتطلع إلى مستقبل أفضل فلا بد أن نحاول التأثير في أحداث المستقبل، وأن نسعى إلى التحكم فيها. لا بد من التخطيط ومن التفكير الاستباقي في الحقائق والأفكار والتوجهات، ومن نظرة تكاملية إلى قضايا الحياة في مختلف المجالات، وعلى المستويات كافة. على كل إنسان أن يخطط للمستقبل، في إطار دائرة تأثيره، مهما كان ضيقها أو اتساعها؛ ولا بد في مثل هذا التخطيط ألا يركز الإنسان على ذاته فقط، ويقول "أنا"، بل أن يهتم بالمجتمع من حوله، ويقول "نحن" أيضا. فحياة الإنسان هي نحن، ولا يستطيع أحد أن يعيش منفردا.