السياسة المالية و«لياقة» القطاع الخاص
بعد أن هبطت أسعار النفط بحدة، وبالتالي انخفضت الإيرادات الحكومية بشكل كبير بحيث لا يمكن أن تغطي الجزء الأكبر من النفقات. تجددت المطالب بالابتعاد عن الاعتماد على البترول، وبالتالي تنويع الإيرادات الحكومية، وعليه، ولأسباب مهمة أخرى، خرجت "رؤية المملكة 2030" ومعها برنامجاها التنفيذيان: الأول برنامج التحول الوطني، والآخر برنامج التوازن المالي، اللذان يهدفان بالأساس إلى رفع كفاءة الجهاز الحكومي، وترشيد نفقاته، وثانيا تحقيق موازنة بدون عجز قبل عام 2020، وبكل تأكيد الجميع يرغب في تحقيق هذه الأهداف المهمة جدا، التي أتت في وقت حساس من ارتفاع النفقات إلى أرقام ضخمة، وبشكل متسارع خلال السنوات العشر الماضية، وبالتالي تعاظم اعتماد القطاع الخاص على السياسة المالية، وحجم نفقات الدولة، والمعونات المقدمة منها، وعليها عاش القطاع الخاص تحت "ظل" الدولة عدة عقود طويلة، سببت "ترهلا" وضعفا في "لياقة" أغلب شركات ومستثمري القطاع الخاص، بحيث إن تغييرا "قويا" و"سريعا" بحجم ما حدث ويحدث مع برامج «الرؤية» يثير تساؤلا حول قدرة القطاع الخاص على التكيف مع هذه البرامج، وبالتالي مواصلة البقاء أو النمو بعد عبورها؟
إن من أصعب الأحكام هو الحكم على القرارات الاقتصادية، ومنها: بيان حجم الآثار المترتبة على أي قرار، خصوصا ما يخص الاقتصاد الكلي، والسياسات المالية، لذلك ما يعتبر قرارا صغيرا أو سهل التنبؤ بنتائجه قد يجر سلسلة من الآثار تمتد إلى قطاعات وشركات لم تدخل ضمن القراءة الأولية للنتائج، وهكذا هو الاقتصاد صعب جدا تحديد حجم ومقدار الآثار لأي قرار اقتصادي، فما بالك بحزمة كبيرة من القرارات مثل القرارات الناتجة عن برامج التوازن المالي والتحول الوطني، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءتها كقرارات يسهل التنبؤ بآثارها ونتائجها سواء على المدى القصير أو المتوسط أو الطويل، بكل تأكيد ستنتج عنها دوامة اقتصادية معقدة من الآثار والنتائج، بعضها متوقع، والآخر خارج التوقعات تماما، سواء من حيث الحجم أو موقع التأثير، والسبب بوصف الآثار بالمعقدة يرجع في الأساس إلى وجود عدد كبير من القرارات، كلها يمس بشكل مباشر القطاع الخاص، ووجود حزمة أخرى من القرارات تؤثر بشكل غير مباشر أيضا، وهو ما يزيد الوضع تعقيدا لقياس وتحديد أي القرارات كان مسؤولا عن الأثر الفلاني، سواء إيجابا أو سلبا، وبكل تأكيد سيزيد صعوبة على صاحب القرار الاستفادة من التقارير الارتجاعية والمؤشرات الاقتصادية ومؤشرات الأداء لتقييم هذه المبادرات لتداخل آثارها معا في القطاع الخاص.
على الجانب الآخر، وهو القطاع الخاص، فسيستقبل هذه القرارات بكل قوتها وتسارعها، وعليه التأقلم والتكيف، وهو - كما ذكرنا سابقا - لم يتعود على التغيير، ولا أعلم: هل يملك اللياقة والمرونة ليتجاوز هذا التغيير؟ بلا شك أنه عند إطلاق هذه المبادرات كان القائمون عليها على دراية بأنها ستؤثر "على المديين القصير والمتوسط" في القطاع الخاص، لكن إلى أي مدى يستطيع القطاع الخاص تحمل هذه التكاليف أو التغيير في السياسة المالية؟ إن حجم وعدد القرارات يجعلان من الصعب الإجابة عن هذه الأسئلة، لكن أتمنى من وزارة الاقتصاد والتخطيط، حيث إنها المعنية بقياس الآثار ومتابعتها، أن يكون لديها متابعة وقياس للتأكد من ذلك؛ لعدم ذهاب الأمور في القطاع الخاص إلى أبعد مما كان مخططا له، وألا تكون حزمة القرارات الناتجة عن البرامج أقوى من قدرة الاقتصاد على تحملها، وبالتالي وقوع وتحقق نتائج قد يكون من الصعب معالجتها، أو ستأخذ وقتا طويلا في المعالجة، ومن المفترض وضع برنامج لقياس قوة واحتمال الاقتصاد والقطاع الخاص والاستفادة من مؤشرات - على سبيل المثال وليس الحصر -: مؤشر ثقة المستهلكين، عدد السجلات الجديدة، حجم السيولة في المصارف، نمو القروض، حجم القروض المتعثرة ونسبتها إلى إجمالي القروض، مؤشر سوق الأسهم، معدل ونمو أرباح الشركات، معدل البطالة وحجم التوظيف، معدل نمو الناتج المحلي غير النفطي، مؤشرات تدفق الاستثمارات من وإلى السعودية (الداخلة والخارجة)، مؤشر مديري المشتريات، عدد حالات الإفلاس للشركات والأفراد، مبيعات قطاع التجزئة، عدد رخص البناء، قروض الأفراد والقروض العقارية، وغيرها الكثير من المؤشرات التي يمكن تصميمها والاستفادة منها بمعرفة مدى صمود وتحمل القطاع الخاص، وبناء عليها يتم التدخل بحسب تطور كل حالة.
لا يمكن بناء اقتصاد ورؤية من دون المراهنة على تعاون وقدرة القطاع الخاص على المشاركة بإيجابية، حيث إن أغلب جوانب الرؤية قائمة على قدرة القطاع الخاص على تحقيقها، ولهذا يجب التعامل بحساسية عالية مع هذا القطاع المهم، والتعامل معه بمرونة؛ لكي تنجح برامج التوازن المالي والتحول الوطني في قيادة دفة التغيير في اقتصادنا بشكل سلس وصحي، وأن تحقق نتائجها المأمولة منها، التي منها تحقيق موازنة بدون عجز قبل عام 2020، ورفع كفاءة القطاع الحكومي، وإزالة الترهل والبيروقراطية منه.