في الحاجة إلى قارئ عربي نوعي
يكثر الحديث عند كل مناسبة ثقافية أو فكرية عن الحاجة إلى كتّاب نوعيين؛ فالجودة والإبداع والأصالة سمات ضرورية؛ عند دخول أي إبداع أدبي أو منتج فكري للسوق الثقافية العربية، أملا في التلقي الجيد له. لكن ما من أحد تساءل لو مرة عن الحاجة إلى قراء جيدين على وزن كتاب جيدين. فالاشتراط ينبغي أن يكون متبادلا، إذ لا يجوز أن يخضع أحد طرفي العلاقة للإذعان (الكاتب) دون الطرف الآخر (المتلقي).
على هذا الأساس نقول، إن هذا الخطاب الذي يتكرر على مدار السنة؛ لدرجة تحول معها في بعض الأحيان إلى مزايدات ثقافوية، لا تستقيم في وسط عربي سمته الأساسية الكسل والخمول في صفوف الجمهور ممن أغرته عوالم الصورة (انستجرام)، وتم تنميطه على استهلاك تغريدات مختصرة (تويتر)، وتعليقات وجيزة (فيسبوك).
لا يأتي هذا الكلام في معرض تبرئة ذمم المبدعين والمفكرين، فجِدة وجودة المكتوب خصلة لا ينبغي أن تفارقها مهما كانت الظروف. بقدر ما يرد في سياق المطالبة بتسجيل القارئ لحضوره هنا وهناك، من خلال الحرص أولا على متابعة الجديد بنفسه، لا الاكتفاء بما يكون له لذوي الحظوة، فينال حظه من الإشهار والترويج. والتعاطي معه ثانيا بالمناقشة ولما لا النقد، بأسلوب جاد ومسؤول يليق بمقام الفكر والثقافة، بصرف النظر عن صاحب المؤَلف أو مضمون الكتاب، وليس بالبهرجة والتسطيح والإمعية التي تغزو الأوساط الثقافية العربية؛ في السنوات الأخيرة، مع صيحات وسائل التواصل الاجتماعي، لدرجة جاز لنا فيها الحديث عن "قبيلة القراء" على غرار "قبيلة المثقفين" التي كنا ننكرها على الدوام.
قد تبدو هذه المطالبة للبعض ضربا من الخيال، أو ما يصنف ضمن الأماني الواردة في باب المستحيل، لكن حقيقة الأمر غير ذلك تماما. فالظاهر أننا نعيش على إيقاع موسم العودة إلى رحاب القراءة والمطالعة، ولا أدل على ذلك من التزايد المستمر في نسب مصاحبة الكتاب "الرفيق الصامت"؛ والانتعاشة التي يشهدها الاهتمام بالشأن الثقافي في عديد من البلدان العربية، وكأننا في بداية ما عُرف بزمن "المجد الثقافي العربي" منتصف القرن الماضي. كل هذا يقع في عز الأزمات المتلاحقة على الجبهتين الاقتصادية والسياسية، والحصار المطبق لمد التكنولوجيا على عوالم الفكر والثقافة والأدب.
حجة يراها من لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب هشة، إذا ما نظرنا إلى نوعية المقروء وطبيعة الكتب التي يقبل عليها القراء في العالم العربي، فأسهم أصناف من الكتب بالتحديد تبقى على الدوام متربعة على قائمة المبيعات، وفق إحصائيات دور النشر والتوزيع. غير أن هذا الرد غير ذي أساس متين، إذ تكذبه معطيات الواقع التي تكشف أن الناشئة العربية فعلا تتلمس طريقها في دروب الثقافة والأدب.
بناء عليه لا بد من التأكيد على أننا نعيش لحظة فارقة في واقعنا العربي، ربما لا ندركها راهنا. إذ بقدر ما نحتاج أقلاما مميزة، وأعمالا نوعية في جميع المجالات (الشعر، الرواية، النقد، الفلسفة، القصة... إلخ)، تنهض بالأعطاب التي تأسر المجتمعات، والخبايا التي تنخر جسد هذا الوطن الممتد. يفرض السياق بالموازاة مع ذلك قارئا نشيطا متوقدا يحمل هما مجتمعيا، منشغلا يؤرقه السؤال بصيغة "النحن" الجماعية، وليس "الأنا" الفردية. قارئ يجعل من نفسه مرآة ترى فيها نخبة أنفسها، وصدى لصوتها كيفما كان رجعه؛ إيجابيا أم سلبيا.
شرعية السؤال عن القارئ النوعي في عالمنا العربي وجدت طريقها إلى المجالس الثقافية والمنتديات الفكرية، عندما بدأ الحديث في أوساط النخب عن السوق الثقافية، وأضحت الإجابة عن سؤال الجودة والرداءة من لدن كثير منهم بسيطا ومقتضبا بعبارة "هذا ما يطلبه الجمهور".
لذلك أصبح من أوجب الواجبات على هذا المتلقي أن يطلب ما هو أرقى وأجود ما يقدم إليه، أليس عارا على لغة لها تاريخ وحضارة ومجد تليد أن ندخل، في بعض الأحيان، إلى المكتبة ونخرج صفر اليدين، لأن قاعدة ما يطلبه الجمهور هي السارية المفعول.
لم لم يعد القارئ العربي يبحث اليوم عن مساجلات العمالقة، التي نعود لنراجعها من حين لآخر، لعلنا نشتم فيها أريج عبق زمن رحل أصحابه، موكلين للأوراق والكتب مهمة الاحتفاظ ببعض تفاصيله. أليس الحس النقدي لدى القارئ العربي سببا في تأليف كتب تحول بعضها إلى مراجع في الفكر والفلسفة والأدب؟
أين نحن من أمثال مثقفين من طينة أستاذنا الراحل محمد عابد الجابري الذي خلفت رباعيته حول نقد العقل العربي (تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي) الذي كان سببا وراء العشرات، إن لم نقل المئات، من المؤلفات حوله تعضيدا أو نقدا؟
أين نحن من ثقافة الرد على الكتب بالكتب التي انتشرت إلى عهد قريب في الوسط الثقافي والفكري بالوطن العربي؟ فمن منا لا يردد عناوين من قبيل "نقد نقد العقل العربي" (جورج طرابشي)، "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" (عبد الله العروي)، "تجديد المنهج في تقويم التراث" (طه عبد الرحمن)... وتبقى اللائحة طويلة بعناوين مميزة، كان القارئ العربي وما يزال يجد متعة في السفر الفكري بين صفحات هذه المصنفات باحثا عن الدليل انتصارا لهذا الموقف والحجة دحضا لذاك.
وتبقى الأسئلة متواترة عما كنا فيه، وما صرنا إليه اليوم، لكن السؤال الأكبر والآني هو الحاجة الملحة إلى قارئ عربي جيد يثور على السائد من القواعد، وينتفض في وجه أشباه المبدعين وأنصاف المفكرين، حتى لا نقول سماسرة الثقافة، معلنا القطيعة مع منطق "السوق" و"الجمهور" فالثقافة والفكر والإبداع أسمى من ذلك بكثير.