معضلة سعر صرف الريال
أسعار الصرف المعتاد على سماعها - مثل سعر صرف الريال =3.75 لكل دولار أمريكي - لا تعكس فروق مستوى الأسعار بين الدول، ولذا تسمى أسعار صرف اسمية. أما أسعار الصرف الحقيقية فتعطي أسعار سلع وخدمات دولة مقارنة بأسعار سلع وخدمات دولة أو دول أخرى. مثلا افترض سعر "كذا" 150 ريالا في السعودية، وسعر سلعة مثلها 100 ريال في الهند، و200 ريال في أمريكا،... وهكذا.
وفقا لنظرية القوة الشرائية Purchase Power Parity PPP، ينبغي السماح لسعر عملة بلد ما بالارتفاع إبان الطفرة في صادرات تلك الدولة، والسماح لها بالانخفاض عند حصول العكس "بافتراض وجود تجارة حرة". تبعا لهذه النظرية الاقتصادية، يفترض أن تعمل الضغوط لمصلحة رفع سعر الصرف الاسمي والحقيقي للعملة إبان طفرة الصادرات. وتعمل على خفض سعر الصرف إبان هبوط الصادرات.
هل ينطبق الكلام السابق على بلادنا؟
عندما ترتفع أو تنخفض إيرادات الصادرات النفطية بصورة قوية، فإن الضغوط التي تقول بوقوعها النظرية الاقتصادية السابقة، تجد مسارا مسدودا في دفع أسعار الصرف إلى الارتفاع أو الانخفاض، نظرا لتثبيت أسعار الصرف.
لنأخذ الوضع الحالي انخفاض إيرادات الصادرات النفطية انخفاضا ملموسا مقارنة بسنوات خلت. هذا الانخفاض تسبب في خفض الإنفاق الحكومي والنمو الاقتصادي وغير ذلك من نتائج معروفة. من ناحية نظرية، كان يتوقع أن يتسبب الهبوط الحاد بأسعار النفط في انخفاض قيمة الريال، لكننا نعرف أن ذلك لم يحدث لأن سعر صرف الريال بالدولار ثابت دون تغيير على مدى سنين طويلة. والنتيجة أن سعر صرف الريال يبدو مرتفعا أكثر من اللازم، مقارنة بسنوات الطفرة. ويسمي البعض هذا الوضع بالمرض الهولندي Dutch disease.
ما تأثير ذلك في الاقتصاد المحلي السعودي؟ حسن وسيئ.
من الحسن طمأنة الداخل والعالم بسعر الريال، ولهذه الطمأنة تبعات ومنافع كثيرة.
من السيئ إضعاف القدرة التنافسية للاقتصاد وموارده البشرية.
الرواج السريع في سنوات الطفرة أدى إلى زيادة الدخل ومن ثم الإنفاق الاستهلاكي. ومن السهل أن يركز الناس على التأثيرات الآنية وقت طفرة إيرادات النفط، وينسون ما بعد الطفرة، لأن الإنسان خلق عجولا. عندما تنتهي الطفرة، يكون من الصعب على الناس التأقلم السريع مع انخفاض الدخل، وتنشأ أو تزيد حدة مشكلات اقتصادية، كزيادة نسبة الديون إلى الدخول، وانخفاض الاستثمارات، وتدهور النمو الاقتصادي.
على المدى الأبعد، النفط مورد غير متجدد، حتى لو بقي عشرات السنين، فسيأتي وقت تجف فيه الآبار، ومن هنا تفهم أهمية استراتيجيات تنويع مصادر الدخل، وترسيخ النمو الاقتصادي.
خلال عقد التسعينيات من القرن الميلادي السابق، الذي تعرضت فيه أسعار سلع أولية "ومنها النفط" للهبوط، تعرضت عملات عدد من الدول المصدرة لسلع أولية كروسيا وإندونيسيا والأرجنتين ومكسيكو، تعرضت للانخفاض تحت الضغوط - حسب النظرية الاقتصادية - ولكن من خلال ثمن باهظ تمثل في ارتفاع أسعار "تضخم" وأزمات نقدية مؤلمة، وفقدان ثقة مستثمرين، وركود اقتصادي. لكن هذا الثمن الباهظ لحقته إصلاحات اقتصادية مؤلمة لكنها وبصفة عامة جيدة. وقد نتج منها تخفيف اعتماد تلك الدول على صادرات النفط فيما بعد. نعرف أن أسعار النفط انخفضت انخفاضا شديدا منذ النصف الثاني من عام 2014، لكن عملات تلك الدول لم تتضرر كما كان في عقد التسعينيات، بسبب نجاح نسبي في تنويع مصادر الدخل.
لم تتعرض المملكة لأزمة نقدية حادة خلال عقد التسعينيات، نظرا لصمود مؤسسة النقد في الدفاع عن سعر صرف الريال بالدولار "رغم أن الدولار تعرض للارتفاع إزاء العملات الرئيسة إبان حكم الرئيس كلنتون"، ولكن المملكة تعرضت لفترات من الركود الاقتصادي، وانخفاض شديد في الإنفاق الحكومي الاستثماري "انخفض من نحو ربع مخصصات الميزانية في مطلع الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي إلى نحو 7 في المائة في أواخر التسعينيات"، وتبعا لذلك، قل تنفيذ مشاريع حكومية جديدة قلة شديدة.
في المقابل، كانت جهود تنويع مصادر الدخل ضعيفة نسبيا. ما جعل انخفاض أسعار النفط منذ عام 2014 تأثيره فينا قويا.
هل من رأي لمشكلة التغير غير المرغوب فيه في أسعار الصرف الحقيقية؟
اقترح البروفيسور فرانكل Frankel "أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، المتخصص في الاقتصاد الكلي والنقدي والمالية الدولية" نظام سعر صرف جديد، أساسه ربط بدرجة ما بين سعر الصرف وسعر الصادرات، أو ما سمي ربط السعر التصديري peg export price "PEP.
رأي آخر تبنته الدولة. تخفيف اعتمادنا على دخل النفط أو تأثرنا بتغير أسعار الصرف الحقيقية عبر سياسات لا تخفى على القراء. والمجال متاح لمزيد فيما يخص التجارة الخارجية كزيادة الحمائية للمنتج المحلي تجاه المنافسة الخارجية. وسياسات ترمب تدفع نحوها. لكن يجب أن يعرف أن لكل سياسة ثمنا وردود فعل. ومن يعتقد أن السياسات إما أن تكون آثارها جيدة فقط أو سيئة فقط فهو مخطئ.