الدول المتقدمة .. والأزمة الديموغرافية
لفت الانتباه خبر تعيين وزيرة للجنس في إسبانيا، فأصبح حديث المجالس لغرابة الخبر، ولعل هذا ما قصدته الحكومة الإسبانية من تعيين وزيرة بهذا الاسم المثير. وقد شجعني هذا الخبر على تخصيص مقال اليوم للحديث عن الأزمة الديموغرافية التي تواجه الدول المتقدمة عموما والدول الأوروبية على وجه الخصوص.
تعاني معظم الدول الأوروبية واليابان أزمة ديموغرافية ستزداد حدتها، وستتضح آثارها السلبية في المستقبل القريب. وقد نتجت هذه الأزمة بسبب انخفاض معدلات الإنجاب إلى مستويات دون "مستوى الإحلال" لفترة طويلة، الأمر الذي سيؤدي إلى تناقص أعداد السكان وارتفاع نسب الشيخوخة، وانكماش قوة العمل وهرمها. وتؤدي هذه التغيرات الديموغرافية إلى آثار سلبية مؤثرة، ليس من الناحية الاجتماعية فقط، بل تشمل النمو الاقتصادي وارتفاع نسب إعالة الكبار، ومن ثم ارتفاع تكاليف توفير الخدمات الطبية لمجتمعات هرمة، تتفوق فيها نسبة كبار السن على نسبة صغار السن "مصدر فتوة المجتمعات".
ليست إسبانيا الدولة الوحيدة التي سينكمش عدد سكانها من 43 مليونا في عام 2016 إلى نحو 40 مليون نسمة في عام 2050، بل تشمل القائمة دولا أوروبية كثيرة، منها رومانيا التي سينخفض عدد سكانها من 20 مليونا إلى 14 مليونا، وأوكرانيا من 43 إلى 34 مليونا، وروسيا من 144 إلى 136 مليونا، إلى جانب دول أخرى مثل ألمانيا وغيرها. ولكن الضربة المؤلمة ستعانيها اليابان التي ستفقد 25 مليونا من سكانها خلال 30 سنة فقط، وذلك في مجتمع يُعد الأكثر هرما في العالم، إذ يمثل كبار السن 27 في المائة مقابل 13 في المائة صغار السن في الوقت الحاضر، وهو ما سينعكس – سلبا - على الاقتصاد، والحياة الاجتماعية والخدمات الصحية.
في إسبانيا تتفوق أعداد الوفيات على أعداد المواليد، وكذلك أعداد المهاجرين المغادرين على المهاجرين الوافدين إلى أراضيها، وتتضاعف أعداد الأزواج غير الراغبين في الإنجاب، ويرتفع سن الإنجاب للطفل الأول لدى المرأة الإسبانية إلى 32 سنة، وترتفع نسب المستخدمات لموانع الحمل إلى 66 في المائة، وتتفوق نسبة كبار السن (65 سنة فأكثر) على نسبة صغار السن، إذ يطغى مشهد "الرؤوس البيضاء" في الشارع الإسباني، ليمثل كبار السن نحو 18 في المائة من إجمالي السكان، مقارنة بصغار السن الذين لا تتجاوز نسبتهم 15 في المائة. ولكي تتضح الصورة أكثر، فإن نسبة صغار السن على المستوى العالمي تصل إلى 26 في المائة، في حين لا تتجاوز نسبة كبار السن 8 في المائة فقط!
والسؤال الكبير: ماذا يمكن لوزيرة الجنس أن تعمل لحل الأزمة الديموغرافية وتشجيع الأزواج على الإنجاب؟! أعتقد أنها لا تمتلك الكثير لحل أزمة ديموغرافية تضرب جذورها في القرن الميلادي المنصرم، خاصة أن إسبانيا تعاني ارتفاع البطالة، وانخفاض النمو الاقتصادي. وتزداد الأزمة تعقيدا، إذا علمنا أن الإنجاب مسألة سلوكية يحتاج تغيير مسارها إلى تعديل في السلوك، وهذا الأمر يتطلب جهدا كبيرا ووقتا طويلا لتغيير رغبات الأزواج وتشجيعهم على الإنجاب، وذلك يعني أن حل الأزمة من خلال هذه الآلية سيستغرق بعض الوقت. وهذا الوضع يترك أمام الوزيرة الموقرة خيارا أسهل وأسرع "ولكنه غير مرغوب" يتمثل في فتح ينبوع الفتوة "الهجرة الوافدة" لضخ الفتوة في المجتمع الإسباني الهرم. ولكن هذا الخيار سيترك أثرا في التركيبة السكانية، الأمر الذي قد لا يرضاه صناع القرار في إسبانيا.