«التشفير» .. من أقبية الساسة إلى أروقة الجامعات

«التشفير» .. من أقبية الساسة إلى 
أروقة الجامعات

يحيط بنا من كل جانب دون أن نوليه عناية تذكر، على الرغم من تنامي أدواره في الحياة المعاصرة مع ارتفاع وتيرة الرقمنة في كل مناحيها. يستطيع الواحد منا؛ بفضل هذا العلم، سحب ما يحتاج إليه من أموال باستعمال بطاقته المصرفية من الصراف الآلي، وبه يتمكن متتبعو القنوات التلفزيونية المؤدى عنها (التلفزيون المدفوع) مشاهدة برامجها، وعليه نعتمد في كل عمليات التسوق التي نقوم بها عبر الأنترنت (التصفح الآمن للشبكة). باختصار لقد صار لما يعرف بلغة اليوم "علم التشفير" شأن كبير في المجال الدبلوماسي والشؤون العسكرية والأمنية، والقطاع التجاري والاقتصادي... وغير ذلك من الاستخدامات.
بلغة القدماء إنه "علم التعمية" الذي تجمع المصادر التاريخية على نسبته إلى العرب؛ ابتكارا وتقعيدا وتطويرا. فنقيض العلوم التي ترجم العرب أصولها (الفيزياء، الفلسفة، الرياضيات، الكيمياء...) ثم طورها في ما بعد، استنادا إلى قاعدة التراكمية في المعرفة الإنسانية عبر التاريخ، تبقى براءة اختراع وحقوق ملكية هذا المجال المعرفي من نصيب العرب.
يتضح معناه من التسمية التي حملها عند ولادته؛ أي علم التعمية، التي تفيد ترجمة النصوص والوثائق المعماة؛ والقصد المشفرة، إلى لغة مفهومة باستخدام مفاتيح محددة يعلمهما المترجم أو الذي يقوم باستخراج المعمى. بتعبير آخر إن ممارسة إخفاء البيانات اعتمادا على وسائل تحويلها من شكلها الطبيعي المفهوم لدى العامة إلى شكل غير مفهوم يتعذر على من لا يملك معرفة سرية محددة إدراك مضمونها وفحواها.
حاول بعض المؤرخين ربط ميلاد تقنية الكتابة السرية بأوروبا العصر الوسيط بنسبة العلم إلى المهندس الإيطالي "ليون باتيستا ألبيرتي"Leon Battista Alberti، غير أن المؤرخ الأمريكي دافيد كاهن David Kahin صاحب أهم مرجع حول التشفير وتاريخ الاتصالات السرية؛ بعنوان "فاكو الشفرات" The code Breakers يرفض ذلك وبشدة، مؤكدا أن ابن الدريهم الموصلي التغلبي هو الأب المؤسس لهذا العلم في القرن الـ 14.
أتقن الرجل هذا التخصص غاية الإتقان، ولم يحل صغر سنه دون الإبداع فيه، لدرجة وصلت به نظم قصيدة في أكثر من 230 بيتا شعريا بعنوان "في حل رموز الأقلام المكتوبة على البرابي"، يعرف فيها بعلم التعمية ومنزلته، وضروبه ممثلا لكل منها وشارحا طرق فك الرموز. وفي مجال التأليف تشير بعض المراجع إلى تجاوز مصنفاته 80 مصنفا، أشهرها الكتاب المرجعي في علم التشفير "مفتاح الكنوز في إيضاح الرموز".
يستدرك كل من محمد مرياتي ويحيى ميرعلم ومحمد حسان الطيان في كتابهم "علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب؛ التشفير وكسر الشفرة"، الصادر عن مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق في جزأين (الأول سنة 1987 والثاني 1996) على كلام كبير مؤرخي التعمية بقولهم: "إن ما احتواه مخطوط الكندي، وهو يسبق ابن الدريهم بخمسة قرون، أهم بكثير مما أتى به هذا الأخير، بل إنه يعد المصدر الأول الذي أخذ عنه جل من تلاه ممن كتب في علم التعمية واستخراج المعمى، ولعل ابن الدريهم واحدا منهم".
بذلك يقر هؤلاء الثلاثة بنسبة هذا العلم إلى يعقوب ابن إسحاق الكندي؛ أي أن أصول العلم تعود لخمسة قرون سابقة للتاريخ الذي يحدده دافيد كاهن، وذلك بعدما تحققوا من أن ابن الدريهم كان ممن تأثروا بالكندي بالواسطة، أي بشكل غير مباشر، من خلال دراسة مجموعة من الرسائل والأعمال التي كتب في بدايات تأسيس هذا العلم، لعل أبرزها رسالة ابن طباطبا "في استخراج المعمى" و"كتاب البرهان في وجوه البيان" لابن وهب الكاتب و"مقاصد الفصول المترجمة عن حل الترجمة" لابن دنينير و"المؤلف للملك الأشرف" لابن عدلان و"رسالة الكندي في استخراج المعمى" وأخيرا "مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز" لابن الدريهم.
عودا إلى العصر الحديث، حتى لا نستغرق في التاريخ القديم، نشير إلى أن قبل سبعينيات القرن الماضي كان التشفير فنا غامضا لا يفهمه أو يمارسه سوى حفنة من الأفراد العاملين في الحكومات والمؤسسات العسكرية، وحاليا يعد التشفير مجالا أكاديميا راسخا يدرس في عديد من الجامعات، كما يمكن أن تستخدمه الشركات والأفراد على نطاق واسع.
وتظل إحدى أشهر الأماكن التاريخية المرتبطة بهذا العلم حديقة بلتشلي Bletchley Park؛ كما تعرف باسم محطة إكس، في مدينة ميلتون كاينس في بريطانيا، التي يعتبرها كثيرون اليوم موطن علم التشفير، ففي هذا المكان تمكن آلان تورينج Alan Turing وفريقه من فك شفرة آلة إنيجما الألمانية، وحفظت بيئة عملهم كأثر تاريخي لإنجازات تورينج وفريقه المدهشة.
احتفظ التاريخ في سجلاته بعديد من الشفرات الخالدة، منها التي لم تحل حتى اليوم مثل شفرة دورابيلا Dorabella التي كتبها ملحن بريطاني يدعى إدوار إلغار إلى إحدى قريباته في ثلاثة أسطر تضم 87 حرفا، لم يتم فك شفرة هذه الرسالة. وشفرة السفاح زودياك Zociac Killer التي تعود إلى 8 نوفمبر 1969، وتضم 340 حرفا مشفرا، بدورها لم يتم فك تشفيرها حتى الآن.
وحتى نقرب الصورة أكثر عن تقنيات هذا العلم النوعي، نورد أولى الشفرات التي استعملها القدماء لدى ممارساتهم علم التعمية. ويتعلق الأمر بشفرة قيصر التي تدخل في نطاق الشفرات البسيطة والتقليدية، فوفق هذه الشفرة يجري تشفير الأحرف من A إلى W من خلال تمثيل كل منها بالحرف الثالث بعده في ترتيب الأبجدي، بينما يجري تمثيل الأحرف X وY وZ بالأحرف A و B و C على الترتيب، وبذلك تكون القاعدة البسيطة التي تحكم هذه الشفرة هي عملية إزاحة بثلاثة أحرف.

الأكثر قراءة