بعينيّ طائر .. «طه صبان» يرسم جماليات المكان والإنسان
يعزف الفنان المخضرم طه صبان بفرشاته رموزا وأنغاما ومقامات لونية تطرب العين العاشقة، ويمزج مشاعره الوجدانية مع جماليات المكان في تكوينات زاهية ومجازات بصرية تجذب الرائي إليها بفيض إيقاعها اللحني وبهجة ألوانها في لوحات معرضه المقام حاليا في "نسما آرت" تحت عنوان "المكان والإنسان".
يعد طه صبان من الفنانين المؤسسين للحركة التشكيلية في السعودية بعد جيل عبد الحليم رضوى ومحمد السليم وصفية بن زقر، وساهم مع فنانين آخرين في تأسيس بيت الفنانين التشكيليين في جدة عام 1972، وكان رائد الحداثة التشكيلية عبدالحليم رضوى شجع صبان في لقائهما الأول للمشاركة في معرض تشكيلي أقيم في قاعة مركز الفنون الجميلة بجدة عام 1967م مع نخبة من الفنانين السعوديين الذين الذين عادوا من البعثات لدراسة الفنون خارج المملكة.
ذاكرة مكة
لوحات المعرض بالألوان الزيتية والأكريليك على القماش توضح عمق تأثير صبان في المحترف السعودي خصوصا إذا تذكرنا معارض سابقة ومحاولة أصحابها تقليد أسلوبه التجريدي وطريقته الفريدة في تدوين الذاكرة المكاوية واستعادة رواشينها ومبانيها العتيقة وحكايات حواريها، إضافة إلى ذلك استطاع أن يرسم في لوحاته مناظر مشهدية في هالات روحانية حقيقية، تتجلى في صبغة نورانية وتصاوير تأويلية ومخططات رمزية للمدينة المقدسة مقصد الحجاج والزهاد والمتعبدين، هذا الحشد من التصورات والأخيلة يرافقه تداخلات لحنية بين الأشكال واستطالات في السطوح على امتداد اللوحة، كل لوحة تضم عوالم زاخرة تعبر عن لحظات مستديمة من التأمل والاستذكار والتحرر والانطلاق، وكل ما يمثل وما يدعو للاستغراق والتوحد بين الانسان والمكان. من يقف أمام لوحات صبان يتذكر مناجاة الشاعر محمد الثبيتي في قصيدته الراقية المكية معبرا عن عشقه الكبير لمكة: أحببتها بجلالها.. وكمالها.. وبميمها.. وبكافها.. وبهائها / وغمرت نفسي في أقاصي ليلها / فخرجت مبتلا بفيض بهائها / وطرقت ساحات النوى / حتى ظمئت إلى ثمالات الهوى / فسقيت روحي سلسبيل من منابع مائها / ونقشت اسمي في سواد ثيابها / وغسلت وجهي في بياض حيائها.
كائنات مشعة
شهدت اللوحة الصبانية انتعاشا مضمونيا في هذا المعرض، ملامح الشخوص سرابية، تحولت الى كائنات مشعة في ردهات الذاكرة، صيادين السمك العائدين وقت المغيب، وتفاصيل تنوعت عن الأمكنة ومظاهر الحج والطوافة والاحتفال بالأعياد، كلها تزهو في بساطة تقنية وتوليفات زاهية تمتزج مع رهافة تعبيرية تستدعي ذكريات عابرة للزمن شكلت الوجدان الشخصي والذاكرة الجماعية لأبناء أم القرى وجدة المدينة الساحلية.
التوافق الهارموني بين التكنيك وفكرة اللوحة ساعده في ابتكار تلك الأشكال المتوزعة في لوحاته، كل لوحة تعتمد على رؤية الذات إلى محيطها، وتسرد رغبة الإنسان في صنع عالمه الخاص، تلك اليوتوبيا المنشودة التي يصوغها صبان من ذاكرة المكان الأزلية، باعتبارها مادة العمل الفني إلى مرئيات تقيم صلات بين الموجودات والفرد على نسق لوني متتابع غير متكرر.
يصبغ قماش اللوحة بألوان الربيع وحيوية أزهاره، وتبدو الأشكال المرسومة لشخوص لا ملامح واضحة لها سابحة في صبغات متوهجة غنائية، تحولها الفرشاة إلى جغرافيا طليقة نحو الضوء في أفق أرجواني، وتلاحظ كل هذا الزخم التعبيري أمامك أو الكرنفالات اللونية حولك في الجاليري في لحظة ساحرة .
طبواغرافيا التكوين
ما يميز صبان هذه التصاميم الجرافيكية التي يؤسسها من أجل تشييد فضاء داخل اللوحة لمسرحة الهوية الحجازية التي تصير تكوينات وتأليفات مقترحة تسرد حكايات وشهادات عن طبيعة الحياة اليومية في الخمسينيات والستينيات الميلادية مع المحافظة على إشراقة المساحات بخطوط دقيقة تظهر المواقف الإنسانية، وتجسد حضور تلك الأشجان المكية، وربما تكون رغبة الفنان في تجسيد علائق المكي مع ذاكرة المكان المقدس بعد تحولات قسرية وتشويهية للطبوغرافيا المحلية.
وعندما نتحدث عن طبوغرافيا التكوين في اللوحة، أو ما يسميه الناقد أسعد عرابي «تقنية تشريح الفراغ التي استبدلت صيغة الطوابق المعمارية بتعددية مستويات الطبيعة الصامتة، هذه التعددية في المناظير ما هي إلا نوع من التحية والاحتفاء باختراعات سيزان في مناظره، فهو الأول الذي دمر قواعد منظور عصر النهضة الإيطالي، ليرسم بديلا عنه طريقا يوازي مسطح اللوحة، أي أنه سلك سلوك الفن الإسلامي دون دراية به، أي تعددية المناظير بحيث نرى المشربية والعمارة من شتى الأطراف. والشرح بسيط، نجده لدى الإمام الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار» ينتقد فيه أوهام البصر لمريده، ليصل إلى أفضلية البصيرة التي ترى العالم من شتى جوانبه، مثل عين الطائر، أو العنقاء في قبة السماء».