كيف نتجاوز أوضاعنا؟

بعض المشاهد التي تمر بك سواء برغبة منك، أو دون رغبة تأسرك، وتفرض نفسها على مشاعرك، سواء بصورة سلبية، أو بصورة إيجابية لتجد نفسك تتفاعل مع المشهد، سواء كان مشهدا حيا في شارع، أو في مقر العمل، أو ما تنقله وسائل الإعلام، أو وسائل التواصل الاجتماعي. من أحدث المشاهد المؤلمة لكل صاحب ضمير حي ما تناقلته وسائل الإعلام لمشهد الطفل السوري الذي ينادي والده ليحمله بعد أن فقد رجليه نتيجة القصف البربري الذي يقوم به طيران بشار بالبراميل المتفجرة. اعتصار القلب أمر طبيعي لمن قدر له المشاهدة المحزنة المؤلمة.
المشهد بثقله على النفس وعبارة "احملني يا بابا"، بما يصاحبها من ألم، ما هو إلا مشهد يسير لما مر بسورية، والسوريين، الذين قدموا الكثير، وضحوا بالغالي، ألا وهو الجموع السلمية التي خرجت مطالبة بالحرية، فكان مصيرها مصادرة أرواحها، لينعم بشار بالكرسي، رغم أنوف السوريين. مع مشاهد الرعب التي تتكرر طوال السنوات الست التي مرت بها الثورة السورية يظل الضمير العالمي لا يتحرك، ولسان حاله يقول لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم، رغم أن المشاهد تنقل من ساحة الحدث مباشرة، دون رتوش، أو مونتاج لها.
الحيرة تعتلي محيا المراقب، وتصيب ذهنه بالشلل، وهو يرى دول الهيمنة العالمية تسهم في القتل، والتدمير، والتشريد، بدلا من التحرك لردع المستبد، وإيقافه عند حده.
أين الخلل؟ المشكلة ليست في دول الهيمنة العالمية، بل إن المشكلة لدى من يعول عليها الفزعة، والإغاثة، ذلك أن هذه الدول تحكمها قيم، وثقافة اجتماعية عامة، وأخرى خاصة توجه الأحداث بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، والفوائد الاقتصادية، أي تطبق المثل القائل مصائب قوم عند قوم فوائد، وما تفعله الولايات المتحدة في العراق، وسورية ما هو إلا تأكيد لذلك، فالمصالح، وجني المكاسب مقدمة على القيم، والمبادئ إن وجدت.
الخلل يتمثل في الطرف الآخر، وهو نحن العرب، والمسلمون الذين صدقنا ما ترفعه تلك الدول من شعارات حقوق الإنسان، وحرية الشعوب، والديمقراطية، لكن هذه الشعارات تبقى للاستهلاك الإعلامي، دونما وجود لها على أرض الواقع، فما تفعله روسيا في سورية أمر يندى له الجبين، كما أن حالة الوهم والخداع التي وقع فيها بعضنا وصلت بالبعض إلى الاستماتة في الدفاع عن هذه الشعارات، حتى يبلغ الأمر المشادات بين الخصوم أنصار المعسكرات الأيديولوجية المختلفة، وفي أحيان كثيرة تتحول المشادات إلى عداء، وكراهية بين الإخوان، فهذا ماركسي، وهذا ماوي، وثالث ليبرالي غربي، حتى توزع أبناء الأمة على موائد اللئام الذين فعلوا، ويفعلون في الأمة كل ما يثخنها، ويضعفها، ويتسبب في سلب خيراتها.
ومما أوجد الخلل الشرخ الذي يوجد بين ثوابت الأمة، وأبنائها، حيث يجد البعض في الشعارات الرنانة ما يجذبه، ويغريه، ويقربه منها، وفي الوقت ذاته يبتعد عن موروثه الحضاري، حتى يصل الأمر به إلى تشكل حالة عداء، وكراهية لكل ما يمت لجذوره، وتاريخه بصلة. ومن يقرأ كتابات البعض في الصحافة، ووسائل التواصل الاجتماعي، أو يستمع لأحاديثهم يجد السم الزعاف في كلماتهم.
هذه النماذج درست في مدارسنا، على أقل تقدير في التعليم العام، وعلى أيدي معلمين، وأساتذة من المواطنين، ولذا يستوجب الأمر المراجعة الشاملة، المخلصة، الموضوعية، والدقيقة لكل عناصر العملية التعليمية، لوضع اليد على مواطن الخلل، إذا ما أردنا أن نقارع الأمم الأخرى، ليس في ما أنجزه آباؤنا في عصور الحضارة الإسلامية الزاهية، ولكن في ما يمكن أن ننتجه من فكر، وصنائع نسد بها حاجتنا، ونقدم الفائض للآخرين.
الانتماء الحقيقي، ليس في شعارات، وأطروحات وهمية، بل في إنجاز، وإنتاج يسهم فيه الجميع من سياسيين، وعلماء في الحقول كافة، وإداريين، إلا أن هذا لا يتحقق دون طاقة محركة تتمثل في غرس روح التحدي الذي يقود للإبداع، والإخلاص، والعودة الصادقة لمكونات الأمة الحقيقية التي تمكن بها آباؤنا من التمدد في نصف العالم، لكن بعد التراجع عن مكونات الأمة التي تميزها في شخصيتها حدث الضعف، والتراجع، حتى وقعت أجزاء من الأمة تحت الاستعمار.
الثقة المفرطة بالآخر، التي تصل إلى حد القبول المطلق لتوصياته حولت جزءا من الأمة إلى أتباع فاقدي القدرة على التفكير السليم، مع ما صاحب ذلك من فقدان الثقة بالنفس، الذي يمثل جوهر الشخصية القادرة على اتخاذ القرار، دونما تراجع، وخضوع للآخر. وما لم تتم العودة والأخذ بما أخذ به آباؤنا سيستمر التشتت، والتناحر، ولن تجدي مناداة الضمير العالمي، فالمستجير بعمرو حين كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي