«جوتيريس» وحلم «الأمم» الجديد .. من إدارة الأزمات إلى منعها
يُعد أنطونيو جوتيريس تاسع أمين عام لمنظمة الأمم المتحدة منذ تأسيسها، وأول زعيم وطني بخبرة سياسية ودربة عملية، يصل إلى هذا المنصب. تعود بداية الرجل إلى منتصف عقد السبعينيات حيث تدرج في صفوف الحزب الاشتراكي البرتغالي، قبل أن يتولى أمانته العامة سنة 1992. موقعه أهّله بعد ثلاث سنوات لرئاسة الحكومة البرتغالية، لفترة دامت ست سنين (1995 - 2001).
سجِل هذا المناضل الاشتراكي فيما يتعلق بقضايا اللاجئين؛ وبشكل خاص منذ 1991 تاريخ تأسيسه مجلس اللاجئين البرتغالي، مكنه من قيادة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بدءا من عام 2005، وقبلها تولى رئاسة المجلس الأوروبي، كما أمضى خمس سنوات على رأس منظمة الأممية الاشتراكية.
يتمتع الرجل بمسار حافل تضاف إليه تلك السابقة التي حققها بنيله إجماع الدول الكبرى عند الانتخاب؛ حيث تم اختياره بسهولة، وعُد هذا الأمر حالة نادرة من الوحدة داخل مجلس الأمن. وقد عزى البعض ذلك إلى الحصيلة النوعية التي حققها الرجل في ملف اللاجئين، حتى أصبح بتعبير أحدهم "صوتا محترما يستمع إليه العالم".
بقدر ما تصب كل المؤشرات الخاصة المرتبطة بشخصية الأمين العام الجديد، والعامة المتعلقة بأجواء انتخابه في مصلحة جوتيريس، نجد أن معطيات موضوعية مرتبطة بمنظمة الأمم المتحدة في ذاتها تعقد من مهام أحد بناة الدولة الحديثة في البرتغال.
تسلم ابن لشبونة منصبه الجديد، في عالم يشهد تراجعا لمنسوب الثقة بمنظمة الأمم المتحدة، وما تجسده من قيم عالمية. الوضع العالمي المتأزم، يؤكد يوما بعد آخر أن الاطمئنان الذي ابتدأ مع انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، الذي وصل إلى حد إعلان «نهاية التاريخ»، انطلاقا من افتراض الانتصار النهائي لقيم الحرية والإنصاف والتنوير في المعترك الفكري، هو اطمئنان سابق لأوانه بل مفرط بالتفاؤل في قراءته للتطورات المتتابعة.
بناء عليه يمكن القول بأن قيادة السياسي البرتغالي للأمم المتحدة جاءت والمنظمة تمر بأحلك فتراتها، وسط دوامة من الصراعات الإقليمية. فمعدلات الإرهاب على الصعيد العالمي في ارتفاع بشكل متواز مع ازدياد أعداد الحروب والنزاعات. إضافة إلى تكاثر الأزمات؛ وفي مقدمتها أزمة اللاجئين، ناهيك عن ظهور بوادر حرب عالمية تلوح في الأفق، لدرجة وصف فيها بعض المختصين الحالة التي تعيش على إيقاعها المنظمة بـ «الإفلاس السياسي».
يعرف جوتيريس قبل غيره حجم الجهد الذي عليه أن يبدله، من أجل تحقيق نقلة نوعية في منهجية عمل أجهزة الأمم المتحدة، والقطع مع دورها السلبي الحالي؛ القائم على إدارة التوافق العالمي حين يحضر، وعلى تلطيف مساوئ غيابه حين يغيب. وقد أكد ذلك غير مرة، حين وصف فترة الأمم المتحدة تحت قيادة بان كي مون بـ «عقد من السبات العميق»، منتقدا بذلك سوء إدارة هذا الأخير لتدبير الأزمات، حيث قاد سلسلة من محادثات السلام الفاشلة في عدة ملفات حارقة.
أكثر ذلك استطاع الأمين العام الجديد أن يضع الأصبع في عش الدبابير عند حديثه عن أعطاب الحكومة العالمية، وتأكيده أن هيكل السلام بالمنظمة أكثر الجوانب التي تتطلب إصلاحا آنيا وعاجلا. بمعنى أن الحاجة باتت ملحة إلى هيكل سلام عملي وشامل وحديث وفعال، يغطي جميع المراحل، بدءا من منع الصراعات إلى عمليات حفظ السلام، وبناء السلام...، وكل ذلك يستوجب الانضباط لنهج شامل، وغير مجزأ.
تكشف تصريحاته من حين لآخر عن مدى بلورة الرجل لرؤية إصلاحية شمولية لإعادة الحياة إلى الهيئة الأمممية، فاللحظة فارقة وبحاجة إلى طفرة في مجال دبلوماسية السلام، مؤكدا على أن "المجتمع الدولي ينفق كثيرا من الوقت والموارد في إدارة الأزمات أكثر من منعها".
صحيح أن الوعي بأصل العطب مهم لكنه غير كاف لوحده، إذ يلزم أن تكون إلى جانبه إرادته حقيقة قصد الفعل والإنجاز. بصيغة أخرى، نقول إن الأصل في منصب الأمين العام للأمم المتحدة هو منصب سياسي بالدرجة الأولى، فهو المتحدث باسم المصلحة العالمية، إلا أن تجارب الأمناء العامين السابقين أثبتت عكس ذلك، إلا في حالات قليلة، ولم يكتب لها النجاح (داج همرشولد).
إذ منذ تأسيس المنظمة الأممية والهوة تزداد شساعة بين الدور السياسي المخول للأمم المتحدة -ممثلة في أمينها العام- في حسم القضايا والنزاعات الدولية، ومعالجة آثارها الإنسانية، وبين أدائها لهذا الدور على أرض الواقع. وأصبح واضحا للجميع أن منصب الأمين العام يقتصر على كونه موظفا إداريا لأكبر منظمة عالمية، ويخضع بشكل مباشر للتوازنات الدولية، ولمصالح الدول الخمس؛ دائمة العضوية في مجلس الأمن، التي تتعارض بشكل كبير مع كون الأمين العام يتمتع بنفوذ سياسي كبير. ومن أقوى الشواهد على ذلك أن عملية اختيار الأمين العام ذاتها تتم في مجلس الأمن، ثم يتم إرسال توصية بالاسم المختار إلى الجمعية العامة.
لكن مع انتخاب السيد جوتيريس، سادت حالة من الأمل في احتمالات قدرته على استعادة هيبة المنظمة، استنادا إلى تاريخه السياسي الثري، وحالة الإجماع التي لم تحدث على مرشح أممي قبله.
فهل ستحول سيرته الشخصية، وهويته العقائدية دون فشله في هذه المهمة؟ فسابقه؛ أي بان كي مون، كان رجل إدارة (تقنوي) بامتياز، لدرجة وصفت مهمته -وبسخرية مريرة- في مواقع التواصل الاجتماعي بـ «التعبير عن القلق».
أما جوتيريس، فيرى أن السنوات العشر التي قضاها في منصب المفوض السامي للاجئين كانت خير تحضير له لمنصب الأمين العام الذي ينبغي أن يكون وسيطا أمينا، وأن ترى الدول استقلاليته، لكي يخلق مناخا للإجماع والتغلب على الأزمات.
وضمن التوقعات المتفائلة بهذا السياسي البرتغالي، نجد الأمين العام السابق الذي قاله عنه: "إنه الأفضل لهذا المنصب؛ لوجوده على الخطوط الأمامية للصراع المسلح والمعاناة الإنسانية لعقد كامل.. هو اختيار رائع لتوجيه هذه المنظمة، ونحن نبني هذا التقييم على أساس التقدم المحرز من جانبه في العقد الماضي".
لكن هل ستنفع إقدامية شذّبتها خلفيته الاشتراكية وإيمانه الكاثوليكي، وطورتها تجربته الميدانية الطويلة في الأركان الأربعة للعالم؛ في ما يخص قضايا اللاجئين، في إصلاح مؤسسة مترهلة تعاني مسائل متشابكة باعتبارات اقتصادية وسياسية وشخصية؟