رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


تجنب الادخار وعليك بالقروض

مرت البشرية من الناحية الاقتصادية بعدة عصور ناقشت جزءا منها في مقالات سابقة ولعلني أوجزها هنا حتى نربط أجزاء المقال، وسأركز النقاش على العصر الذي نعيشه فيه وكيف يختلف عن بقية العصور. بدأت القصة ـــ كما بينها الدكتور جاسم سلطان (2010) في كتابه "خطواتك الأولى نحو فهم الاقتصاد" ـــ منذ أن كان البشر يبيع بعضهم بعضا في عصر السيد والعبد. فالإنسان إما أن يكون سيدا وإما أن يكون عبدا، وبهذا يمكن القول إن الإنسان كان ينظر إليه كسلعة تباع وتشترى ولهذا سمي ذلك العصر بعصر العبودية. ثم انتهت فكرة السيد والعبد وحلت محلها تركيبة جديدة وهي الملك، والنبلاء، والفلاحون. وفي ذلك العهد أصبح الملك يوزع الأرض على النبلاء على شكل إقطاعيات وكانت الأرض - بمن فيها من أنفس، وشجر، وحجر، وبشر ــــ ملك للنبيل، والفلاح موجود كي يكدح ويدافع عن الأرض لمصلحة النبيل. ولم يكن الفلاحون يتقاضون أي نوع من الأجر بل يعملون مسخرين كواجب اجتماعي، ولكنهم لم يكونوا يعدون عبيدا بالشراء بل عبيدا للأرض ويطلق عليهم "أقنان الأرض". أما النبلاء فقد كانوا يسخرون إقطاعاتهم لدعم الملك في حروبه. ولم تغب الكنيسة عن هذا، فقد كانت تأخذ من الناس الضرائب أو تبيعهم صكوك الغفران مقابل وعد بإعطائهم الجنة، ويطلق عليه عصر الإقطاع أو العصر الزراعي.
وفي بداية القرن الـ 15 الميلادي مع اكتشاف الأمريكتين بدأت تتدفق على الموانئ الأوروبية حركة واسعة للسفن أوجدت وظائف رفع الأحمال، والتنظيف، وتحصيل الرسوم، وتحولت الموانئ إلى مدن، وفرّ كثير من الفلاحين من إقطاعيات النبلاء للعمل في الموانئ، وتحول الفلاح إلى عامل بسيط يعمل في الموانئ ثم إلى تاجر، وأصبح الفلاحون يرون أنفسهم أحرارا لأنهم أصبحوا يحصلون على أجر وبهذا تم تحرير عوامل الإنتاج من الفلاحين، والأرض، ورأس المال وبدأت الإقطاعيات تضعف والمدن تتوسع، فنشأت طبقة جديدة هي الطبقة البرجوازية وهي طبقة وسطى تفصل بين شريحة الملك والنبلاء من جهة وبين طبقة الفلاحين من جهة أخرى.
وتغيرت ملامح الاقتصاد فأصبح الملك يعتمد على الطبقة الوسطى بدلا من النبلاء حتى هددهم الفقر. بعدها نشأ عصر السوق أو ما يطلق عليه "الرأسمالية" الذي تشكل منذ القرن الـ 16 وله جانبان ـــ كل يخدم الآخر ــــ سياسي وآخر اقتصادي، والذي يهمنا هنا هو الجانب الاقتصادي الذي ارتكز على تنمية الملكية الفردية، والسوق الحرة، وأصبح هناك ادخار، واستثمار، ونشأت المصارف، وشركات التمويل.
وفي السبعينيات من القرن الماضي تم تحرير النقود من الذهب عام 1972 عندما قام الرئيس الأمريكي نيكسون بتحرير الدولار من الذهب دون الرجوع إلى الكونجرس ثم تبعته أغلبية دول العالم حتى أصبح يطلق على النقود عملات لأنها لم تعد نقودا لها قيمة بل عملات ورقية تعتمد على قوة الدولة وليس على الذهب. ويطلق على الفترة من 1492 إلى 1989 العصر الصناعي الذي تحرر فيه كل شيء (رأس المال، الأرض، العمل) عدا الإنسان الذي ما زال عبدا. فقد كان عبدا بالشراء في عصر العبودية، وعبدا للأرض (أقنان الأرض) في عصر الإقطاع، وعبدا للوظيفة في العصر الصناعي.
ومنذ بداية التسعينيات من القرن الماضي دخل العالم من حيث يدري ولا يدري عصرا جديدا مختلفا عن العصور السابقة يطلق عليه عصر "المعلومات" وهو العصر الذي نعيش فيه. وهناك خصائص لهذا العصر منها ما هو ظاهر كالتسوق عبر "الإنترنت" وما تبعه من مصطلحات لم تكن موجودة من قبل مثل التجارة الإلكترونية والتسويق الإلكتروني والتسوق الإلكتروني ومنها ما هو مخفي ويجهله الناس. كما تغيرت أهمية بعض المفاهيم الاقتصادية مثل: الادخار، طريقة الاستثمار، القروض، الدخول وغيرها. وهناك نظريات كانت من المسلمات في العصر الصناعي، ولكن يمكن الآن الطعن فيها نتيجة تغير العصر وتغير ملامحه الاقتصادية.
فعلى سبيل المثال في العصر الصناعي كان الاقتصاديون ورواد المال والأعمال ينادون بتنمية عادة الادخار وأنها السبيل للثروة، وكان هذا مقبولا عندما كان المال نقودا وله قيمة، أما الآن فقد تغير الأمر فالأموال التي بين أيدينا ليست نقودا بل ورق لا قيمة لها، فعندما تدخر فإنك تدخر ورقا ليس له قيمة تأكل الفائدة جزءا منه والتضخم جزءا آخر وما تبقى يكون من نصيب الضريبة. كما كان الاقتصاديون ومختصو المال في العصور السابقة ينادون، خصوصا في العصر الصناعي، بتجنب القروض والحذر منها وأنها تقود إلى الفقر والعوز ولكن الأمر الآن اختلف، فالقروض مصدر قوي من مصادر الحصول على الأموال للشركات والأفراد على حد سواء إذا أحسن استخدامها.
وهنا كثير من العادات التي كانت تمارس في العصر الصناعي ينبغي التوقف عنها إذا أردنا أن نساير التغيرات في عصر المعلومات الذي وجدنا أنفسنا فيه، كما أنني لم أغط جميع خصائص عصر المعلومات لأن المساحة المخصصة للمقال أوقفتني عند هذا الحد وسأكمل هذا في مناسبة قادمة ـــ إن شاء الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي