لحظة مفصلية .. الأمن السعودي يضرب قاعدة جبل الجليد الإرهابي
ماذا يعني أن توقع وزارة الداخلية السعودية في عمليتها الأخيرة بخلايا إرهابية أغلب أفرادها تجاوزت أعمارهم الثلاثين؟ وإلى ماذا يرمز التدرج الزمني لارتفاع معدل أعمار المقبوض عليهم من العشرينات وأقل وصولا للثلاثينات أخيرا؟ للإجابة تلزم الإشارة أولا إلى أنه نسبة إلى ما تحصده نار الإرهاب الكارثية فلا فرق بين حطب صغير وآخر كبير. ولكن حين يتعلق الأمر بمسببات الإرهاب وتعقيدات آليته التنظيرية والتنفيذية فإن هذه المفارقات السنية تعني الكثير. فإذا ما صور الإرهاب مجازا بجبل جليدي فإن الأعمار الصغيرة منه لا تعدو كونها رأس الجليد الصغير والمكشوف غالبا، في حين تمثل العناصر الأكبر سنا، المكلفة بمهام التمويل والتغرير والتجنيد، قاعدة الجبل الجليدي العريضة والمخفية.
ومن هنا يمكن قياس جودة الضربات الاستباقية الأمنية السعودية وتدرجها الناجح لسحق متوالية الإرهاب، إذ تُحكِم اليوم قبضتها على قيادات تمويلية وتحريضية طالما أمدت رأس الجبل الإرهابي بمغرر بهم صغار في السن عبر عمليات عبثية متواصلة؛ الغرض منها إلهاء الأمن عن تنامي القاعدة الأساسية لهذا الإرهاب. ولكن المسعى الإرهابي يخيب كالعادة. في حين تتواصل ثمرات الجهد الأمني المدروس على أعلى المستويات، أكاديميا وعملياتيا، جنبا إلى جنب، في صورة يختزلها بكثير من الرمزية العميقة، يوما بعد آخر، الظهور الوافي إعلاميا ومعلوماتيا لمتحدثيّ وزارة الداخلية السعودية اللواء منصور التركي والعميد الدكتور بسام عطية، عقب كل ضربة، موجعة للإرهاب ومطمئنة للوطن.
وكما أن بدايات الإرهاب تتشابه فإن نهاياته أيضا بالضرورة تتشابه، وهنا يمكن التنبؤ بثقة عن بداية النهاية لتنظيم داعش الإرهابي قياسا على ما حدث سابقا من تساقط لقيادات القاعدة بدايات الألفية في عمليات أمنية مركزة وصلت لعمق التنظيم وخلاياه النائمة، الأمر الذي دعا ما تبقى من هذه القيادات إلى الفرار باتجاه اليمن تباعا، لتشكيل ما عرف فيما بعد بـ "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب". ومع ذلك يبقى الفارق دائما لصالح الجهات التنظيمية الأمنية التي بيدها خبرة متراكمة وكافية هذه المرة وكل مرة لتجاوز تبعات الفرار أو هنات التسرب الواردة مع إحكام قبضة الحصار على معاقل الإرهابيين.
أما الإرهاب بوصفه آفة العصر، فكريا ونفسيا واقتصاديا، فقد بات يستدعي الكثير من تضافر الجهود وتكاملها بدءا بالبيت والأسرة وصولا للجهات المؤسسية الأمنية المعنية، مرورا بمؤسسات المجتمع المدني وكياناته الإعلامية الفاعلة، للحد من القابلية الفكرية الملتبسة، فضلا عن النفسية المشحونة غضبا وكراهية، التي قد تملأ بها عقول وقلوب بعض الشباب. لذلك كان النصح قبل العقاب، بل وبعده إذا ما لزم الأمر، منهجا تسير عليه الجهات الأمنية السعودية بفروعها التوجيهية والقيمية، بغرض الإصلاح قدر المستطاع. فما لا تكسبه ليس من الحكمة على الأقل أن تخسره.
يبقى أن الأمن السعودي في مجمله يعبر عن قصة جهود عظيمة تتكامل مع بعضها البعض لتُروى حاضرا ومستقبلا كفائدة ودروس لمن أراد عملا مؤسساتيا ملهما، فالمجهودات الميدانية البطولية الفردية والجماعية أصبحت موثقة للملأ صوتا وصورة، وكل ذلك بالتوازي مع عمل استخباراتي محترف تشيد به الدول العظمى قبل الصغرى. فيما العمل القيمي والأكاديمي التربوي الذي يروم التقويم والتصحيح والمناصحة ما أمكن، بات هو أيضا سمة بارزة للأمن السعودي ومطلبا لكثير من الأنظمة الأمنية والاجتماعية المجاورة والبعيدة.