قرار لجنة السوق المالية يضع مهنة المراجعة في خطر

لقد جاء قرار لجنة الاستئناف في منازعات الأوراق المالية، في قضية شركة المعجل خارج سياق مهنة المحاسبة والمراجعة تماما، بل إنه - في نظري - خطوة خطيرة غير مسبوقة في الهجوم الحاد والعنيف وغير المبرر على مهنة بعراقة وحجم وأهمية المحاسبة والمراجعة، لقد أجحفت هيئة السوق في حق هذه المهنة إذا رفعت الدعوى بهذه الصيغة، وتدخلت بشكل فظ في نظامها وفي فكرها وفي أيديولوجيتها وجدليتها وبطريقة غير مبررة سوى أن لائحة ونظام هيئة السوق المالية يجيز لها ما لا يجيز لغيرها. لقد استخدمت هيئة السوق المالية ولجان الفصل في المنازعات المادة رقم (59) من نظام السوق المالية بطريقة مجحفة. فالمادة تعطي للهيئة الحق في إقامة دعوى ضد كل من اشترك، أو يشترك، أو شرع في أعمال أو ممارسات تشكل مخالفة لأحكام نظام السوق، أمام لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية، لاستصدار قرار بالعقوبة المناسبة، ثم وضع النظام تسع عقوبات للاختيار من بينها وأعطى الهيئة تحديد ما تراه مناسبا. وللحقيقة فإن هذه المادة بالذات تحتاج إلى مراجعة لأنها تمنح الهيئة سلطات كبيرة جدا، خاصة الفقرة 2 من المادة نفسها.
لقد كانت تجربة انهيار السوق المالية عام 2006 عنيفة بكل المقاييس وواجه موظفو ومنسوبو هيئة السوق المالية تجربة قاسية جدا ولم تكن خبراتهم كافية للمرور بهدوء من تلك التجربة لذلك أصبحت الهيئة عنيفة جدا في التعامل مع السوق وردة فعلها مبالغا فيها إلى حد بعيد واليوم تصل الهيئة في تهديداتها إلى مهن أخرى ذات علاقة بالسوق (حسب ما تمنحه المادة (59) الفقرة (2)، وأصبحت الهيئة اليوم لا تفرق بين معاقبة أشخاص ومهنيين أفراد وبين معاقبة مهنة بكاملها. قرار لجان هيئة السوق المالية في قضية المعجل خاصة في شأن شركة المراجعة هو قرار لمعاقبة مهنة المحاسبة والمراجعة كلها، ونظرا لقوة نظام السوق المالية وقدرته على المساس بمهن وأنظمة أخرى أجد عذرا للهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين في عدم قدرتها على منع هيئة السوق المالية من تجاوز نظام المحاسبين القانونيين وإيجاد نظام مواز لمهمة المحاسبة والمراجعة غير الذي يتم العمل به حاليا. فنتيجة قرار هيئة السوق المالية وصدوره خارج سياق نظام المحاسبين القانوني أوجد نظامين للمهنة، نظاما يطبق في السوق المالية على الشركات المساهمة ونظاما يطبق خارج هذا الإطار. ومع الأسف فإن النظام الذي بدت ملامحه في قرار لجان الفصل في المنازعات، هو نظام غير واضح المعالم تماما وأيضا يضع على المراجعين مسؤوليات غير معروفة تقدرها وتفهمها هيئة السوق المالية وحدها بعيدا عن معايير المحاسبة والمراجعة وعن إطارها الفكري.
ما زلت أقول إنه لم يكن لهيئة السوق المالية ولا للجان السوق أن تصدر قرارا بمنع شركة محاسبة مستقلة من تقديم خدمات المراجعة للشركات المساهمة، هذا القرار المجحف جدا لم يمس الشركة نفسها، بل مس وبعنف مسؤولية المراجعين ونظرية فجوة التوقعات في مهنة المراجعة، ويجب أن تكون ردة فعل المهنة تجاه هذه الخطوة بمستواها نفسه وبحجمها نفسه، وأن تتم إدارة عديد من النقاشات وورش العمل، وأن تتم مناقشة هيئة السوق المالية كثيرا حول هذه الخطوة لفهم التغيرات التي أصابت المهنة بسبب هذا القرار. لقد حذرت في مقال سابق من هذه الخطوة ومع ذلك مضت هيئة السوق فيها قدما؛ ذلك أن مسؤولية المراجع عن الأخطاء والغش في القوائم المالية موضوع نقاش مهني طويل جدا منذ عام 1933 عندما انهارت السوق الأمريكية، وهناك أنواع من المسؤولية منها ما هو جنائي ومنها ما هو مهني ومنها ما هو مدني، المسؤولية المهنية تتعلق بقواعد السلوك المهني وهذه المسؤولية تتولى الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين المساءلة عنها وتوقع في مقابلها العقوبات المنصوصة بنظام المحاسبين القانونيين الصادر من مجلس الوزراء، وقد تصل إلى الشطب من السجل، وهذه المسؤولية المهنية قد تقع على المحاسب القانوني كفرد وكشركة، أما المسؤولية المدنية فهي حق في التعويض عن الضرر الذي يصيب الغير نتيجة فشل المراجع في تطبيق المعايير المهنية، وهذه مسؤولية تجاه الطرف الذي يتم تقديم الخدمات إليه مباشرة وتمتد إلى الطرف الثالث الذي خارج العقد، وهذه المسؤوليات ذكرت بتفاصيلها في نظام السوق المالية في المواد رقم (55 و56 و57 و58)، وهي مسؤولية معقدة وحولها نقاشات كثيرة في أدبيات المهنة، وهذه المسؤولية تقع على عاتق الفرد والشركة معا. تبقى أهم موضوع في القرار وهو المسؤولية الجنائية التي تقع عندما يتورط المراجع في أعمال الغش بنفسه كأن يقدم تقريرا يخالف الواقع عن قصد وليس بسبب القصور في أعمال المراجعة، وهذه المسؤولية لا تقع على الشركة المهنية في مهنة المراجعة أي لا تقع على الصفة الاعتبارية فلا يمكن في المراجعة للشخصية الاعتبارية (كشركة) أن تقع في مسؤولية جنائية ولا بد أن تقع هذه المسؤولية على فرد مهني أو عدة أفراد فقط، والسؤال المهم الذي يواجهنا في قرار لجنة السوق المالية الذي طبقته على المراجع القانوني لشركة المعجل (شركة مهنية) هل كانت مسؤولية مهنة أم مدنية أم جنائية؟
إذا كانت مسؤولية مهنية فلا علاقة لهيئة السوق بها لا من قريب ولا من بعيد، إذا كانت مدنية فالتعويض عن الضرر كاف وفقا للمواد من 55 وحتى 58 فلماذا جاء قرار الإيقاف، وهو قرار مهني بحت؟ إذا كانت جنائية فلا تقع على شخصية اعتبارية أي لا تقع على شركة مهنية. وإذا كانت مدنية فليس لهيئة السوق المالية التي أقامت الدعوى لأن المتضرر هو الذي تعرض للضرر كما نصت المادة 55، ولهذا فإن التعويضات حق لأصحاب الضرر وليست لهيئة السوق المالية، وإذا كانت جنائية هو الأقرب للفهم، فإن إيقاع العقاب على شخصية اعتبارية غير مبرر. وتبقى عقوبة المنع من تقديم خدمات المراجعة إلى شركات السوق المالية، فهذه من طوام القرار. فهو يعني ببساطة تطبيق قرار مهني في صيغة جنائية، ومنع الشركة من تقديم الخدمات على شركة المراجعة يعني تجاهلا تاما لهيكل شركات المراجعة لمهنة بعراقة المراجعة، فالمهنة والشركات المهنية تتكون من شركاء مجتمعين ومنعهم جميعا من تقديم الخدمات للحكم في قضية جنائية ليس له ما يبرره. لقد كان واضحا بجلاء أن القرار تجاهل مهنة المحاسبة والمراجعة (كمهنة) وتجاهل كيفية عمل الشركات المهنية، والقرار فيما أعلم ليس له سابقة مثيلة في الأسواق العالمية، وهو يغير تماما نظرية فجوة التوقعات ويقدم نموذجا أكثر تعقيدا لها، يجب عقد مؤتمرات وورش عمل كثيرة لفهمه وتأثيراته الخطيرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي