تحديات التفوق المهني عند السعوديين
تميزت مجموعة كبيرة من السعوديين في السنوات الأخيرة بجني كثير من سمات التفوق المهني. مثل هؤلاء بدأت مسيرتهم بالتعليم المتميز في أرقى جامعات العالم، وربما كانت حظوظهم مميزة بالعمل في شركات عالمية كبرى والاحتكاك بأفضل النماذج المنتجة أو نعموا بالحصول على التركيز والدعم الكافي لنيل تأهيل مهني عالي المستوى؛ ومن جانب آخر، وصل بعضهم إلى التميز بأساليب مختلفة بعد تجارب قاسية سلك فيها طرقا صعبة وحصل على مراده باقتدار. المميز في نظري ليست جودة المدخلات التي حصل عليها كل هؤلاء ولكن كيفية تجاوزهم التحديات التي كان من الممكن أن تثبتهم في أماكنهم بلا تحرك ولا تميز ولا نمو. الخطير في الأمر أن هذه التحديات متجددة ومتنوعة، وقد تحيا من جديد وتتكرر حتى بعد تجاوزها، لذا تعد مرونة تجاوز تحديات التفوق المهني مطلبا أساسيا للجيل الجديد من المهنيين السعوديين الذين يحملون على عواتقهم مسؤولية مواجهة التحديات الاقتصادية والإنتاجية على المستويين الوطني والشخصي.
ينبثق أول هذه التحديات من التصورات السائدة في المجتمع، سواء كان المهني السعودي يمارس عملا يدويا فنيا كالميكانيكا أو كان عملا ذهنيا رياضيا يتطلب تدريبا مقننا كالإحصاء والمالية. وكما هو معروف، يقف المجتمع عادة موقفا سلبيا متناقضا، فيمجد عملا مقابل آخر بلا أسباب مقنعة، وربما يوجه النقد لثقافة العمل لساعات أطول بغض النظر عن طبيعة العمل. التعامل مع الإنتاجية بمفاهيم خاطئة يضاعف الضغط على الباحث عن التفوق المهني؛ بدل أن يجد الدعم الذي يحتاج إليه فهو يجد قوة دفع معاكسة تطالبه أن يرضى بالقليل لكي يحظى برضا الجميع. أحيانا، يسمع من يركز على تطوره المهني ويخالف أهله وأصدقاءه كلمات مثل: متكبر، لا يريدنا، أو مسكين يتعرض للاستغلال. تتنوع أشكال ووسائل تثبيط المجتمع للناجحين وربما أتت بشكل معاكس يضخم فيها المجتمع من قيمة الناجح فيجعل الحاصل على الدكتوراه شيخا والمهندس عبقريا والمدير زعيما، وهم ليسوا إلا مكلفين بالقيام بمهام محددة في سياقات محددة تم تأهيلهم للقيام بها. تعريف المجتمع للنجاح وتعاملنا معه يؤثر في المسار الذي يمكن أن يسلكه الساعي خلف التفوق المهني، وهنا تحديدا يجب أن يستقل هذا الساعي عن العناصر السلبية في مجتمعه حيث لا تؤثر في قراراته وسلوكياته. استقلالية الفرد بتعاريف محددة لمفاهيم مثل التفوق المهني تجعله يحدد أهدافه بوضوح وتقربه أكثر من تحقيقها.
التحدي الثاني يخص قلة النماذج الشخصية التي يمكن الاستفادة منها. لا أعتقد بوجود قلة في التجارب الناجحة التي تستحق التكرار والتعلم، ولكن الوصول إلى هذه النماذج لا يزال أمرا محصورا على فئات معينة أو يقتصر على نماذج قليلة. هناك شرطان للاستفادة من تجارب الآخرين: أن تحوز على ما يستحق وأن يمكن الوصول إليها. ما الفائدة من التنفيذيين المخضرمين أو الأطباء الرائعين إذا كانوا لا يسمحون للمتعلمين بالاقتراب منهم، ولا يدونون تجاربهم، ولا يشاركون الآخرين الدروس التي استفادوا منها. وجود القدوات المهنية وتيسيرها للتعليم بالمحاكاة والمشاركة المجتمعية والتحفيز مُمَكِّن عظيم للتفوق المهني. على الشاب الذي يجد صعوبة في الوصول إلى مثل هذه النماذج السعي بمحاولات بديلة لتجاوز هذه العقبة؛ من هذه المحاولات: بذل مزيد من الجهود للتواصل مع هذه النماذج، الاحتكاك بنماذج محفزة حتى لو كانت خارج دائرة التخصص والاهتمام، وربما الاستفادة من النماذج الناجحة في المجتمعات الأخرى التي يمكن الوصول إليها، إضافة إلى استخدام وسائل أخرى للتعلم مثل قراءة السير والتجارب.
يرتبط التحدي الثالث بإدارة الشغف والطموح. ربما يعد هذا المحور الشخصي أهم التحديات التي لا يتم تجاوزها إلا بالإعداد والسيطرة الذاتية المحكمة. الفشل في إدارة هذا التحدي يسبب التوقف التام والعجز الكامل، ولن تؤثر حينها قدرتنا على تجاوز التحديات الاجتماعية وتحديات التعلم. من السهولة أن نقع في حفرة من حفر ضعف الوعي الذاتي، فنحدد تحركاتنا بأهداف حياتية هشة وربما نتركها عشوائية بلا أهداف ونندمج في التقلبات المزاجية وسوداوية العادات السيئة حتى نصل في نهاية الأمر إلى السخط اللا متناهي واستحالة تصديق جودة الفرص التي يمنحنا إياها الواقع. وهكذا، يتشكل لنا العائق الأكبر الذي يمنعنا من البدء ويبطئ الزخم ويعوق النمو، ثم يتحول إلى عائق دائم متجذر في دواخلنا يصعب التخلص منه. لذلك، من الأهمية أن يجيد الباحث عن التفوق المهني التعاطي الإيجابي مع الذات ــــ وأن يحافظ عليه - ويحذر من الفشل في إدارة الدوافع الشخصية، مثل الشغف والطموح، حتى تتسنى له المحافظة بشكل مستمر على حالة التفوق التي يسعى خلفها.