رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


السياسة .. واحتياطيات البترول

لم ُتبتلَ سلعة في عصرنا الحديث بمثل ما أصاب البترول، من عدم إنصاف بحقه، وإنكار لفضله، وميل إلى الاستنزاف الجائر، وأخيرا عدم الشفافية في كل ما يتعلق بوضعه الحالي وبمستقبله. هذا الكلام ينطبق على معظم الدول التي لديها كميات تجارية من البترول، خصوصًا المصدرة منها. وليس لأيٍّ من دول الأوبك استثناء. فعدم الشفافية وتضخيم الاحتياطي والاستنزاف أصبحت من ظواهر سياسات الإنتاج العالمي. وكثير من الممارسات الحالية في معظم دول الإنتاج يعود إلى المبادئ التي كانت عليها الحال في عهد الأخوات السبع. ولمن لا يعرف الأخوات السبع، هنَّ شركات البترول العملاقة التي كانت في وقت ما، حتى نهاية السبعينيات، تسيطر على إنتاج البترول بموجب عقود محدودة الأجل بينها وبين الدول التي تعمل على أراضيها. وانتهت مدة الاتفاقات وبعض الدول المضِيفة أنهتها بالتأميم. وأهم ما كان يميز تلك الحقبة من الزمن محاولة الشركات المذكورة إنتاج أكبر كمية ممكنة من البترول قبل أن تُطلبَ منها المغادرة. وكان المأمول آنذاك أن تكون الشركات الوطنية التي تسلمت زمام الأمور أكثر حرصًا على المحافظة على الثروات الوطنية وتقنين الإنتاج لمصلحة الأجيال القادمة. لكن الذي حدث هو أن أغلبية تلك الشركات الوطنية حذت حذو الشركات الأجنبية في طريقة استنزاف الثروة البترولية، ما كان يقود في كثير من الأحيان إلى نزول الأسعار إلى مستويات متدنية، من الممكن تحاشيها. لكن الشركات الوطنية الجديدة التي من المفترض أن تكون أكثر كفاءة وإخلاصًا واهتمامًا بمستقبل شعوبها أضافت موضوعا لا يقل خطورة على مستقبل الإنتاج، وهو تضخيم الاحتياطيات البترولية عمدًا "وعلى عينك يا تاجر". فالعالم اليوم، ومن ضمنها شعوب الدول المنتجة، لا يعلمون شيئًا عن متى ينتهي البترول الرخيص أو يصل الإنتاج إلى مرحلة النضوب الاقتصادي. ولعل أكبر عامل ساعد على اتخاذ مثل هذا الإجراء غير المقبول هو السياسة التي أصبحت تسيِّر أمور البترول. وقد بدأت ممارسة هذا النهج بشكل أكثر وضوحًا في أوائل الثمانينيات، عندما وجدت الدول المنتجة نفسها، وعلى وجه الخصوص دول الأوبك، في حرب إنتاجية مع بعضها. فكانت كل دولة تريد أن تنتج أكبر كمية ممكنة على حساب الآخرين. وكانت حصص الإنتاج لدول الأوبك مرتبطة بعدة عوامل، أحدها وأهمها كمية الاحتياطي المثبت لدى كل طرف من دول الأوبك. فتفجرت عبقرية هذه الدول عن فكرة بسيطة وغير مكلفة، وهي رفع كمية الاحتياطي، كل حسب مزاجه. بدأتها العراق في عام 1982، فرفعت احتياطيها من 32 مليارا إلى 59 مليار برميل بخطة قلم. ثم توالت خمس من دول الأوبك على المنوال نفسه بنسب وتواريخ مختلفة، حيث ختمتها السعودية في عام 1988. ونحن لا نحكم على أن جميع الدول آنفة الذكر كان رفعها كميات الاحتياطي عشوائيًّا وهو الأرجح، لكن قد تكون لديهم مبررات فنية، وهو أيضا أمر مستبعَد.
ظلت الأمور على ما كانت عليه حتى عام 2008 عندما فاجأتنا فنزويلا بقرار سياسي رفع احتياطيها، المضخَّم أصلا، من 99.4 مليار برميل إلى 172.3 وفي عام 2009 إلى 211.1، وأخيرًا عام 2010 إلى 296.5، لتصبح الأولى عالميًّا في احتياطيات البترول التقليدي. وربما أن كثيرين لا يدركون أن جميع الإضافات الفنزويلية خلال العقود الثلاثة الماضية هي من نوع غير التقليدي المكلف. فهو من البترول الثقيل الموجود بكميات كبيرة في فنزويلا ومعروف وجوده هناك منذ سنوات طويلة. فهو ليس اكتشافا جديدًا، كما قد يظن البعض. وإنتاجه يتطلب إما نوعا من التسخين بضخ كميات كبيرة من بخار الماء أو خلطه بكميات من البترول الخفيف عالي الثمن لمساعدته على الجريان، وهذا مما يضاعف من تكلفة الإنتاج. ولعله من نافلة القول أن نذكر أنَّ إنتاج فنزويلا من البترول التقليدي مع قليل من الثقيل خلال السنوات القليلة الماضية آخِذ مسار النزول القسري. وهو الآن يقترب من مليوني برميل في اليوم، رغم وجود هذا الكم الهائل لديها من الثقيل أو غير التقليدي. ولذلك فبإضافتها احتياطي ما يقارب 280 مليار برميل من غير التقليدي ليس له تأثير في الإنتاج العالمي، ربما حتى يتعدى السعر 130 دولارًا للبرميل. ومن الواضح أن هدف فنزويلا من رفع احتياطيها غير المجدي في وقتنا الحاضر هو سياسي، أو هو محاولة لرفع رصيدها المعنوي في المصارف، أملاً في جذب مزيد من الاستثمارات البترولية. وكانت كندا، وهي ليست من دول الأوبك، قد أضافت في أواخر العقد الماضي كميات كبيرة من الرمل البترولي إلى احتياطيها التقليدي القليل، ليصبح الاحتياطي الجديد 172 مليار برميل. أكثر من 95 في المائة منه من غير البترول التقليدي الرخيص.
لكن اللافت للنظر حقًّا، هو أن جميع دول الأوبك التي رفعت أرقام احتياطيها في وسط الثمانينيات حتى يومنا هذا، بعد 30 عامًا، لم تغير تلك الأرقام، على الرغم من إنتاج عشرات ومئات المليارات من البراميل خلال تلك الفترة الطويلة. وهو ما يشير إلى أن القرار سياسي وليس اقتصاديا. ومن المؤسف في هذا المجال هو أن وكالة الطاقة الدولية وبقية المؤسسات المهتمة بمستقبل إنتاج البترول تستخدم في دراساتها وتنبؤاتها أرقام الاحتياطي نفسها المعلَنة، ما يقلل من جدوى فاعليتها ودقة استنتاجاتها. وهم دون شك يعرفون ذلك، فالأمر واضح لكل ذي بصيرة. وكان بإمكانهم افتراض نسبة معينة من تخفيض كمية الاحتياطي لكل دولة حسب تقديرهم، لتكون النتيجة أقرب إلى الواقع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي