كذبة الرأي العام .. استطلاعات إجاباتهاتسبق السؤال

كذبة الرأي العام .. استطلاعات إجاباتهاتسبق السؤال

لم تتعاف منظمات استطلاعات الرأي العام- أو ما يعرف عندنا في العالم العربي بسبر الآراء- من الانتكاسة القوية؛ حتى لا نقول الصدمة، عقب فشلها– في واقعة لم تحدث منذ سبعة عقود (1948)- في التكهن بالرئيس الأمريكي، ما أوجب تشكيل لجنة من المختصين والباحثين والممارسين والأكاديميين لدراسة ما جرى تفصيلا، في انتظار نتائج هذه الدراسة منتصف العام الجاري.
لم تتعاف من ذلك حتى تلقت ضربة مبكرة جديدة هذه المرة، في سباق الرئاسيات الفرنسية، فالظاهر أن الأسماء التي رشحتها معظم نتائج تلك الاستطلاعات، تسقط تباعا في الانتخابات الحزبية التمهيدية لاختيار المؤهلين للتنافس للدخول إلى قصر الإليزيه.
حدثان سبقهما سقوط مدو قبل شهور من الآن لمراكز هذه الصناعة؛ التي تقدر قيمتها بنحو 20 مليار دولار، عند فشلها في التنبؤ بنتيجة استفتاء يونيو الماضي حيال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبذلك يعود السؤال مجددا عن المتغير الجوهري الذي يجعل هذه التقنية تكرر خطأها في الآونة الأخيرة في اثنتين من أكبر المناسبات السياسية في العالم. وتزداد راهنية السؤال عندما نعلم الدور الذي تلعبه نتائج سبر الآراء في توجيه صانعي القرار في العالم المعاصر؛ في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث إن القياس القبلي لردود الأفعال المتوقعة تجاه أي قرار ذي تأثير مباشر على أفراد المجتمع أصبح ضرورة ملحة لتفادي الاصطدام المباشر بالجمهور، ورفضه لتبعات القرار أو عدم تقبله له في أي مرحلة من مراحل تطبيقه.
لقد أصبحت مراكز الاستطلاع وقياس الرأي العام في الدول المتقدمة، بمنزلة الأذرع المهمة بالنسبة لصانعي القرار في مختلف المجالات. ويعتقد البعض أن سر نجاح النظم الغربية، يكمن إلى جانب قيم الديمقراطية والحرية والمؤسسية في تفعيل دور المؤسسات التي تعبر عن كل هذه القيم مثل مراكز الاستطلاع وقياس الرأي ووسائل الإعلام المختلفة.
وقوع هذه المراكز في أخطاء كبيرة من الحجم المشار إليه سابقا، يجعل هذه الأقاويل عنها محط شك وريبة. ويزداد الأمر إلحاحا عندما نتأمل مقولة المؤرخ الاسكتلندي توماس كارليل الساخرة: "الرأي العام هو أكبر كذبة في تاريخ العالم". يبدو أن الرجل على صواب في سخريته تلك، فالمنطق يفترض أن الرأي يكون فرديا؛ أي مرتبط بوجدان وشخصية الفرد المسؤول. في حين تحيل كلمة العام إلى المجموعة أو الجماعة؛ أي الانتشار والتشارك والتداول.
وبذلك تكون هذه العمليات؛ في نظر معارضيها، استخفافا بالعقل البشري، ومصيدة لاستدراج الأفراد العاديين نحو "الرأي الأرجح"؛ في حسابات تحكمها المصالح المالية والسياسية. وهي في نظرهم أقرب إلى عمليات احتيال واستقطاب ولي حقائق عبر حالة من الإيحاء تغذي في البسطاء غريزة القطيع واتباع ثقافة المسايرة.
على هذا الأساس لا يتردد بيير بورديو في التأكيد على أن عمليات قياس الرأي العام تنطلق من أسئلة متحيزة، بيد أن الإجابة تكون كامنة، وبشكل ضمني، في الصيغة التي يتم بها بناء السؤال.
تفيد بعض المصادر التاريخية بأن أولى المحاولات لقياس الرأي العام تعود إلى الربع الثالث من القرن الثامن عشر، وبالتحديد عام 1774 بالولايات المتحدة الأمريكية، من قبل مؤسستي أرامز للاستطلاعات، وبن فرانكلين لسبر آراء عينة من الشعب الأمريكي تقدر بنحو أربعة آلاف مواطن من مختلف الولايات الـ 13؛ التي شكلت فيما بعد فيدرالية الولايات المتحدة الأمريكية، بخصوص فكرة الاستعداد للحرب ضد المملكة المتحدة البريطانية من أجل الاستقلال.
لكن الاعتراف المعاصر بتقنية استطلاعات الرأي حديث نسبيا، ويعود إلى عام عام 1936 عندما قام جورج غالوب بتطبيق الأسلوب المنهجي الدقيق في تَمْثِيل المجتمع من خلال عينات شاملة فنجح في التَنبؤ بنتائج الانتخابات الأمريكية لثلاث دورات رئاسية (1936 و1940 و1944)، بينما أخفق في توقع نتائج انتخابات دورة 1948؛ بين الجمهوري توماس ديوي والديمقراطي هاري ترومان، ما عرضه لهجوم شرس حول مصداقية الاستطلاع واتَّهمه البعض بالانحياز لكفة الجمهوريين.
عودا إلى الحاضر، وتحديدا مسألة فشل تنبؤات أكبر مراكز استطلاع الرأي العام العالمي، للإشارة إلى أن هناك شبه إجماع بين الباحثين يعزى الأمر برمته إلى عدم التقيد بالشروط العلمية والضوابط المنهجية اللازمة لضمان سلامة وصحة ومصداقية المعلومات التي تقدمها للجمهور.
ويستميت أصحاب هذا الرأي في شرح موقفهم بالقول إن الذي يحدث هو عدم تمكن الجمهور من الحصول على الحد الأدنى اللازم من البيانات التي تمكنه من الحكم. وهنا تكمن الخطورة؛ لأنها قد لا تكون سوى وسيلة لتضليل؛ حتى إن كانت المسألة غير مقصودة، ما يعني تلقائيا تغييب الوعي وإفقاد المشارك القدرة على اتخاذ القرار السليم، وإصدار الحكم الرشيد تجاه ما يدور حوله من أحداث.
غير أن مثل هذا التفسير يتجه نحو تكرار الخطأ ذاته الذي تقع فيه تلك المؤسسات التي ينتقدها، لأنه يحاكم جمهور العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بأدوات وقواعد الحرب زمن الحرب الباردة أو قبله.
ففي زمن وسائل التواصل الاجتماعي وضغط تكنولوجيا الإعلام يتحول فيها الرأي الفردي المفروض فيه الثبات والاستقرار إلى ما يشبه أسهم البورصة أو حالة الطقس التي تتعرض لتغيرات عدة في اليوم نفسه.
كما أن معلومة خاطئة أو حتى كاذبة أحيانا يمكنها أن تقلب الرأي العام رأسا على عقب في أي لحظة؛ وقد تكون شبه محط شكوك كما كان الحال مع المراسلات الإلكترونية لمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، أو الفضيحة التي تروج عن زوجة المرشح اليميني فرانسوا فيون هذه الأيام.
ختاما نقول إن الرهان على استطلاعات الرأي سوف يبقى موقوف التنفيذ إلى حين إعلان نتائج الدراسة التي أشرنا إليها في المقدمة، غير أن ظهورها سوف يتأخر حتى تمر أهم المحطات الانتخابات التي سوف يكون الجمهور على موعد معها هذه السنة.

الأكثر قراءة