عقلية الإنسان .. في بحر المعلومات المائج
العقل البشري ثروة منحها الله لكل إنسان دون استثناء. ويتمتع هذا العقل بقدرات فطرية على المُحاكمة الذهنية والإدراك، وهذه هي وسيلته في تلقي المعرفة واستيعابها، وفي اكتشاف مزيد منها، بل في الإبداع الفكري، وابتكار المعطيات المُفيدة، وتكوين الآراء، واتخاذ القرارات في شتى قضايا الحياة. ولا يختلف العقل العربي في هذا الأمر عن العقل الشرقي أو الغربي، أو عن العقل الشمالي أو الجنوبي. ودليل ذلك أن حضارات الإنسان عبر الزمان لم تأتِ من أمة مُحددة، ولا من منطقة جغرافية دون غيرها. الكل يملك قدرات ذهنية إدراكية، والكل يستطيع تطوير هذه القدرات، وتفعيلها والاستفادة منها.
وقد طرحنا في مقالات سابقة ثلاثية "الاكتشاف والإبداع والابتكار" كأساس لعقلية الإنسان الباحث عن المعرفة والمتوجه نحو الاستفادة منها وتحويلها إلى "قيمة مادية" تُسهم في التنمية وتُعزز استدامتها. ولعله من المفيد هنا مُلاحظة أن هذه الثلاثية هي انعكاس "لعقلية الإنسان عموما" وليس فقط "لعقلية الباحث" عن المعرفة الجديدة وأساليب الاستفادة منها. وكي تكتسب هذه الثلاثية صفة العمومية، قد يكون من المناسب جعل مفرداتها أكثر عمومية. فإذا كان الاكتشاف ينظر في "الحقائق"، وكان الإبداع يهتم "بالأفكار"، وكان الابتكار يُركز على "التوجهات"، فلعل ثلاثية "الاكتشاف والإبداع والابتكار" تصبح في الإطار العام لعقلية الإنسان ثلاثية "الحقائق والأفكار والتوجهات".
وتحتاج عقلية الإنسان كي تؤدي عملها بالشكل المناسب الذي يقودها إلى "توجهات حكيمة"، إلى مصادر تقدم "حقائق كافية وموثوقة"، وإلى مناهل تعطي "أفكارا مفيدة"؛ ثم تحتاج أيضا إلى "بيئة مناسبة" تمكن عقل الإنسان من التفكير بموضوعية وحكمة. ولعلنا نحاول، فيما يلي، إلقاء الضوء على المفردات المرتبطة بعقلية الإنسان هذه تمهيدا لتقديم آراء بشأنها.
إذا بدأنا بالنظر إلى "الحقائق" في مواجهة أي قضية من قضايا الحياة، علينا ألا ننظر إليها نظرة محدودة من ثقب الباب أو حتى من النافذة، بل لابد أن نسعى إلى رؤيتها من جميع جوانبها عبر نظرة شاملة. ولعلنا نرى في عالم البحث عن الحقائق "شوائب" كثيرة، فهناك من "يختلق" أموراً لا أصل لها، ويدعي أنها حقائق؛ وهناك من "يشوه" حقائق قائمة ليظهرها بمظهر آخر. والغاية من مثل هذه الشوائب هي التلاعب بعقلية الإنسان وآرائه وتوجهاته.
وإذا انتقلنا إلى "الأفكار"، نجد أنها تتضمن: "مُعتقدات ومبادئ متأصلة"؛ و"ثقافات موروثة"؛ و"خبرات" مستخلصة من تجارب الحياة؛ و"طروحات" ناتجة عن معالجات ذهنية لقضايا مختلفة. وقد نجد بين مثل هذه الأفكار خلافات تفرز بين أصحابها حوارات فكرية هادئة؛ أو قد نجد بينها صراعات لا تحمد عقباها، بعضها صراعات صارخة وربما دامية، وبعضها صراعات خافتة قد تأخذ أشكالا من الغزو الثقافي لتحقيق مآربها.
ونصل إلى "البيئة" المحيطة بالإنسان التي يفترض- إن سلمت- أن تمكنه من "التفكير" بموضوعية في كل من "الحقائق" المعطاة، و"الأفكار" المطروحة، والوصول إلى "توجهات سديدة". ولعله يمكن النظر إلى خصائص هذه البيئة من جانبين رئيسين: جانب "مصادر المعلومات" ومدى موثوقيتها؛ وجانب "المتطلبات" المؤثرة في حياة الإنسان، التي قد تحد من حريته وتضطره أحيانا إلى الابتعاد عن الموضوعية في النظر إلى الحقائق والأفكار ورسم التوجهات.
يتمتع جانب "مصادر المعلومات" بأهمية كبرى في البيئة المحيطة بالإنسان، فلم تعد مؤسسات الثقافة والإعلام المعروفة هي المصدر الرئيس للمعلومات، بل بات كل مستخدم للإنترنت مؤسسة إعلامية تبث ما تريد من "معلومات"، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على كل من المستوى المحلي والمستوى العالمي؛ إضافة إلى كون هذا المستخدم بالطبع هدفا لتلقي ما تقدمه مثل هذه المؤسسات الفردية أيضا. وهكذا نجد أنفسنا، في عالم المعلومات، أمام "بحر كبير من الحقائق والأفكار، مائج بكل الألوان وفي مختلف المجالات"، لكنه يفتقر غالبا، وبمستويات مختلفة، إلى الموثوقية، وإلى اللغة الموضوعية، أو حتى اللائقة أحيانا، في العرض والتخاطب بين الناس.
تبرز "التوجهات" بعد ذلك كحصيلة "للحقائق" و"المعلومات" المعطاة، و"الأفكار" المطروحة في إطار "البيئة المحيطة". وقد رأينا في ثلاثية "الاكتشاف والإبداع والابتكار"، أن الابتكار ينهل من المعرفة، المعطاة بالاكتشاف والإبداع، "ليتوجه" نحو إيجاد المعطيات التي تقوم بتحويلها إلى "قيمة مادية". وهنا أيضا نجد التوجهات تنهل من الحقائق والمعلومات والأفكار لتقوم بالتوجه نحو "فعل" تراه مناسبا يحمل القيمة التي تتطلع إليها؛ كل ذلك في إطار البيئة المحيطة.
إذا أردنا "لتوجهاتنا" أن تكون "سديدة"، فلا بد أن ندرك "الحقائق"، ونقيّم "الأفكار"، ونستوعب خصائص "البيئة" المحيطة. وهنا تأتي ضرورة تفعيل "التفكير" في كل هذه الأمور. علينا التفكير في كل ما نلاحظه وما نتلقاه من مصادر المعلومات. ولعله من المناسب هنا التذكير بحقيقة أن المعلومات التي تصل إلينا لا تدرك ولا تستوعب، ولا تصبح معرفة يعتد بها، إلا بعد التفكير فيها من جوانبها المختلفة.
أمام ما يقال لنا إنها حقيقة، علينا أن نفكر في تساؤلين اثنين: هل هذه الحقيقة "ممكنة" موضوعيا؟ وهل يتمتع مصدرها "بالموثوقية" المطلوبة؟ قد تكون هذه الحقيقة المطروحة مفبركة من قبل جهات تريد إيهام الآخرين بها، فتسقط في السؤال الأول أو في الثاني أو في الاثنين معا. وأمام ما يطرح علينا من أفكار، علينا أن نتساءل عن: مصدر هذه الأفكار؛ وعن "مسببات" طرحها؛ ومدى "أثرها" في كل من مستوى "أنا الذاتية"، ومستوى "نحن الاجتماعية". وعلى أساس إجابات هذه التساؤلات، يمكن أن نتعامل مع هذه الأفكار بما يناسبها سواء سلبا أو إيجابا.
"التفكير" مطلوب في التحقق مما يقدم إلينا على أنه "حقائق"؛ والتفكير مطلوب أيضا فيما يطرح أمامنا من "أفكار"؛ وهو مطلوب كذلك في إدراك "البيئة" من حولنا. بذلك نستطيع رسم "توجهاتنا" نحو "أفعال مفيدة" تحمل قيمة. نحتاج إلى ذلك في مختلف قضايا الحياة كبيرها وصغيرها. وقد يكون من المفيد، وبالذات في القضايا الكبيرة، أن نهتم بالدراسات الاستباقية للحقائق والأفكار والبيئة المرتبطة بها، كي نختار التوجهات الأفضل بشأنها. وعلينا أن نتذكر دائما أن ديننا الإسلامي الحنيف هو دين "التفكر والتدبر" وتحفيز "أولي الألباب".