قصر النظر الذي لم يعالجه الأطباء
نجح الأطباء نجاحا تاريخيا باهرا في معالجة مشكلات ضعف النظر، ومنها قصر النظر الطبيعي الذي سيطروا عليه بالعمليات واستخدام النظارات تحسينا لحياة الملايين من البشر. ولكن للأسف، لم يتمكنوا ولم يهتموا بطبيعة الحال بقصر النظر الإداري الذي نعانيه جميعا أفرادا ومؤسسات. يستخدم المصطلح short-sighted بشكل عام للإشارة إلى فقدان القدرة على النظر للمستقبل بشكل جدي أو موضوعي وربما على ضعف التعاطي الاستراتيجي مع الأحداث والظروف وبالطبع عند العمل بلا تخطيط؛ وهو عَرَض يصيب أبسط الشخصيات وأكثرها تعقيدا وأهمية، من أعضاء الأسرة الصغار وحتى تنفيذيي الشركات والمسؤولين الحكوميين.
تشير الأبحاث إلى أن الناس تفشل في التخطيط والتعامل المبكر مع أحداث المستقبل لعدة أسباب من ضمنها: أنهم لا يرون أهمية الأحداث المستقبلية والثاني أنهم يعتقدون أنها ستمضي في أغلب الأحوال بشكل جيد ومرضٍ. هم على خطأ فيما يخص السبب الأول لأن جودة حياتهم تعتمد كليا على ما يحدث في النهاية، والنقطة الثانية فيها أكثر من إشكال. ما تعريف الجيد والمرضي بالنسبة لنا؟ وما الذي يؤثر في حدوث الأمور بهذه الطريقة؟ ولماذا نتقاعس عن التحسين إذا كان الأمر متاحا وممكنا؟ وهل تتجاوز مشقة التحسين المنفعة المستردة وتصبح المسألة غير مجدية، أم العكس تماما؟
في الحقيقة يستمتع الإنسان باللحظة التي يعيشها ويندمج معها للحد الذي ينسى معه الماضي والمستقبل. وهذا أمر جميل وعادل خصوصا فيما يخص الماضي الذي يجب أن نتعلم منه وننسى باقي أحداثه. ولكن بالنسبة للمستقبل يختلف الأمر، بسبب قانون طبيعي بسيط ومثبت: وهو أن تصرفاتنا في الوقت الحاضر تؤثر بشكل مباشر في النتائج التي نحصدها في المستقبل. يتوسط هذه الأفكار أحد أهم الأدوار التي يمارسها الناجحون، وهو القدرة على التركيز أثناء الضوضاء ومهارة تجاهل التشويش وآليات التعامل مع ما تستدعيه اللحظة من انهماك ومتعة وحماس بموجب ما تقتضيه اللحظات القادمة من تجهيز وإعداد وتخطيط. الدمج بشكل جيد بين هذه المتناقضات يعني أخذ البعيد والقريب في الحسبان، ويعني الوقاية الأفضل من قصر النظر الخطير جدا على النتائج والعواقب.
تقول إحدى الإحصاءات إن 40 في المائة فقط من المديرين يتعاملون مع إدارة المخاطر بنظرة مستقبلية استراتيجية، والبقية يهتمون بالمشاريع الحالية التي ستظهر نتائجها على المدى القصير. تتدنى نسب الادخار بشكل كبير بين الأفراد وربما يشعر بعضهم بأن حياته أو واقعه المالي ليس بذات الأهمية أو الغزارة التي تستحق التخطيط. وبالطبع جربنا جميعا واقع الاستنفار أيام الاختبارات مع أن فرصة الاستذكار المبكرة والمنتظمة هي الأساس. مشكلة ضعف التخطيط والتركيز على الأمور الملحة والعاجلة مشكلة عامة نتأثر بها على جميع الأصعدة ونخسر بها الشيء الكثير، على الرغم من أهمية التخطيط المثبتة وتأثيره في واقعنا بشكل مباشر. من أبسط الأمثلة التي يستخدمها بعض مدربي التطوير الذاتي رحلة السيارة التي لن تصل على الأرجح إلى محطة الوصول إذا لم تخطط لها جيدا، من المستحيل عمليا أن تصل إلى وجهتك لو لم تعرف الطريق والتوقيت وبعض المعلومات عن الرحلة المراد خوضها. وهذا ينطبق إلى حد كبير على جميع رحلات الحياة. من أشهر العبارات المتداولة في موضوع التخطيط: "فشلك في التخطيط هو تخطيط للفشل". وعلى الرغم من كل ذلك، نجد أن قليلا منا من يهتم بالتخطيط الاستراتيجي طويل الأمد ويقوم تبعا لذلك بالربط بينه وبين فترات حياته المهمة الأخرى من السنة القادمة وحتى اليوم الجاري. ربما افتقد بعضنا المهارات اللازمة للقيام بالأمر، وربما يصر بعضنا على تجاهله بالكامل للفكرة. ولكن الأكيد، أن الأطباء لن يكونوا موجودين لمعالجة قصر النظر "الحياتي" ونتائج ضعف رؤيتنا لأشياء مهمة جدا، ولأنها مرتبطة بالوقت، لا يمكن تعويضها كما كانت أول مرة.