قراءة لبعض مؤشرات الحسابات القومية
أصدرت الهيئة العامة للإحصاء أخيرا نشرة الحسابات القومية لعام 2016، التي تتضمن بيانات أولية عن تطورات الناتج المحلي الإجمالي للمملكة. وأظهرت النشرة تراجعا محدودا للناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية بنسبة 1.86 في المائة. ويعود هذا التراجع في الدرجة الأولى لهبوط متوسط أسعار النفط لعام 2016 الذي قاد إلى تراجع الناتج الإجمالي للقطاع النفطي بنحو 11 في المائة. وتفيد معلومات الأسواق بتراجع متوسط أسعار النفط العربي الخفيف السنوية بنحو 20 في المائة عام 2016. وقد جاء تراجع الناتج الإجمالي للقطاع النفطي بمعدلات تقل عن تراجع أسعار النفط نتيجة لزيادة الكميات المنتجة بنحو 2.4 في المائة، وكذلك لرفع أسعار منتجات الطاقة المحلية الذي عوض جزءا من خسائر الصادرات النفطية خلال عام 2016.
من القطاعات المهمة في الاقتصاد المحلي قطاع الصناعات التحويلية الذي ينقسم إلى قطاعين فرعيين هما قطاع تكرير النفط والصناعات الأخرى. وارتفع الناتج الاسمي الإجمالي لقطاع التكرير بنحو 2.1 في المائة على الرغم من الزيادة الكبيرة في حجم الإنتاج التي قاربت 15 في المائة عام 2016. وتعود الزيادة المحدودة في الناتج الاسمي إلى تطورات أسواق منتجات النفط العالمية وإلى انخفاض الفروق السعرية بين أسعار النفط الخام والمنتجات على المستوى المحلي. أما في قطاع الصناعات الأخرى فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية بنحو 1.1 في المائة، وهذه النسبة مقاربة لنسبة التراجع بالأسعار الحقيقية (أو الكميات المنتجة) والبالغة 1.2 في المائة. ويثير تقارب نسبتي النمو الحقيقي والاسمي عديدا من التساؤلات حول تطورات أسعار هذا القطاع خلال العام، حيث تشكل الصناعات البتروكيماوية والكيماوية بشكل عام الجزء الأكثر أهمية في هذا القطاع. وقد شهد عام 2016 تراجعا في قيمة صادارات وأسعار هذه المنتجات، كما شهدت أسعار اللقيم زيادة في تكاليف المواد المنتجة ما تسبب في خفض أرباح هذا القطاع الذي كان واضحا في بيانات أكبر شركة منتجة للبتروكيماويات "سابك". وشهد عديد من الصناعات تراجعا في مستويات الأرباح خلال العام، ويظهر هذا في صناعات مواد البناء وأبرزها الأسمنت. ولهذا فمن المرجح أن نسبة تراجع قطاع الصناعات الأخرى الواردة في النشرة أقل من الواقع، وهذا سيؤثر في معدل نمو الناتج الإجمالي للاقتصاد ككل نظرا لأهمية هذا القطاع.
شهد ناتج قطاع الكهرباء والغاز والماء نموا ضحلا لا يتجاوز 0.8 في المائة بالأسعار الحقيقية في 2016، ما يظهر بوضوح كبح رفع أسعار الماء والكهرباء لمعدلات نمو الاستهلاك التاريخية. أما ناتج هذا القطاع الإجمالي بالأسعار الجارية فقد نما بنسبة 4.9 في المائة، وهذا راجع إلى ارتفاع ربحية هذا القطاع. وقد زادت إيرادات تشغيل شركة الكهرباء السنوية بنحو 20 في المائة خلال الأرباح الثلاثة الأولى من عام 2016. وذهبت معظم زيادة الإيرادات لتغطية تكاليف زيادة أسعار الوقود، ولكن جزءا منها ذهب للربحية. أما بالنسبة لقطاع المياه فقد شهد زيادة كبيرة في أسعاره، ولكن لا تتوافر أي بيانات مالية حوله، ومن المرجح أن ترتفع إيراداته وتكاليف التشغيل بطريقة مشابهة لقطاع الكهرباء.
تشير مؤشرات نمو ناتج قطاع التشييد والبناء الحقيقية الواردة في النشرة إلى تراجع محدود مقداره 3.1 في المائة. ويبدو أن هذه النسبة منخفضة مقارنة بالواقع المشاهد، حيث توجد مؤشرات ترجح تراجع أنشطة هذا القطاع بنسبة أعلى، ومن أبرز تلك المؤشرات تراجع مبيعات مصانع الأسمنت بنسب تتجاوز الواردة في النشرة بكثير. كما توجد مؤشرات على تراجع تكاليف التشييد والبناء وهو ما يعزز فرضية التراجع القوي في أنشطة هذا القطاع. أما نشاط قطاع الخدمات الحكومية فتذكر النشرة أنه نما بالأسعار الجارية في 2016 بنسبة 1.5 في المائة تقريبا، وهذا يتناقض مع خفض الأجور في القطاع الحكومي المتمثل بإلغاء العلاوة السنوية والتحول من التقويم القمري إلى التقويم الشمسي وإلغاء عديد من البدلات. وتمثل الأجور معظم ناتج قطاع الخدمات الحكومية، حيث لا تستهدف الأغلبية الساحقة من الخدمات الحكومية تحقيق أرباح.
إن هناك عديدا من الملاحظات على معدلات نمو الناتج بشكل إجمالي وقطاعاته المختلفة الواردة في نشرة الهيئة العامة للإحصاء. وتميل هذه الملاحظات إلى أن نسب التراجع في بعض القطاعات الفعلية أكبر مما هي واردة في نشرة الحسابات القومية. وتظهر النشرة مثلا نموا بنسبتي 1.1 في المائة و 1.8 في المائة لأنشطة القطاعين الخاص والحكومي بالأسعار الجارية، كما تظهر نموا محدودا للقطاعين بالأسعار الحقيقية. وهذا يتناقض مع مؤشرات تعزز وجود تراجع واضح في أنشطة القطاعين الحكومي والخاص، ومن أبرزها التراجع القوي البالغ 23.4 في المائة في قيمة واردات المملكة لعام 2016، وكذلك تراجع الإنفاق الحكومي خلال العام، وازدياد معدل بطالة المواطنين. وعموما فإن هناك حاجة جلية إلى مراجعة بيانات النشرة لتعكس صورة أدق لتطورات أنشطة الاقتصاد الوطني التي ستساعد متخذ القرار على صناعة سياسات أكثر ملاءمة للواقع الملموس.