التنمية السياسية والأمن الإعلامي وجهان لمشروع مجتمعي واحد

التنمية السياسية والأمن الإعلامي وجهان لمشروع مجتمعي واحد
عملية التغيير الساعية إلى بناء الديمقراطية لا يمكن أن تتم إلا بالطرق السلمية والمدنية.
التنمية السياسية والأمن الإعلامي وجهان لمشروع مجتمعي واحد
يقاس الأمن الإعلامي بإشراك كافة الحساسيات النقدية والثقافية في مشروع التغيير.

يقصد بالتنمية السياسية مجمل القيم والتصورات والأفكار والاتجاهات، التي تؤسس للنهضة والقطيعة مع عوائق ومعوقات الارتداد، في سبيل تأبيد واستدامة السلطوية، عبر التوسل بخطاب يمتح خصوصيته من مجال الفتنة والرهاب من الاختلاف ومن الأفق. لذا؛ يكتسي مفهوم التنمية السياسية بعدا حضاريا من خلال قدرته على تقديم بدائل الرقي والبناء، بعيدا عن الصيغ والقوالب الجاهزة، واستحضار القيمة الإشكالية للبناء وإعادة البناء، انطلاقا من الهاجس والبعد التنموي، الذي يرفض التقليد والمحاكاة، ويستثمر البعد الخلاق للرصيد الحضاري لدى الشعوب التي حققت النقلة والطفرة المرجوة شرط أن يتزامن ذلك ويتكامل مع مفهوم آخر من ضرورات عصر الاتصال والتواصل الحاضر هو الأمن الإعلامي.

ويتركز المستوى النوعي للرؤية السياسية بحسب قراءة الباحث رشيد اليملولي على سمات وخصائص ومستوى تطور المجالات الأخرى؛ إذ تبطن هذه الرؤية مضامين اجتماعية واقتصادية وحقوقية وثقافية وتربوية وإدارية، لذا ركزت نظريات التحديث والتنمية السياسية على أن التنمية متغير مستقل، والديمقراطية متغير تابع، ذلك ما يفيد أن تحقق الديمقراطية يتأتى انطلاقا من شروط النمو الاقتصادي والتعليم والصحة والثقافة المدنية؛ بمعنى أن الديمقراطية السياسية مرهونة بالمشروع المجتمعي الذي يقف فيه مفهوم الإنسان مقياسا لنظام القيم والعقل والعمل والإنتاج والمعرفة، إنسان الحضارة والثقافة والتمدن، بعيدا عن التوظيف الأداتي لمفهوم الديمقراطية، أي إرجاؤها أو تعطيلها تحت مبررات الخصوصية الدينية أو الثقافية، عن طريق فتح هوامش ضيقة للحرية والمساواة، أو ببناء أجيال ضعيفة الوعي ضحلة النضج، وهو ما صاغ التخلف باعتباره قاعدة القمع الاجتماعية التي تنتج أنظمة القمع، وتوطد قيم ومفاهيم ومؤسسات التخلف.

أفصح زمن الانتقال السياسي الذي عبرت عنه الحركات الاجتماعية والسياسية فيما سمي بالربيع الديمقراطي عن الحاجة إلى ثقافة ديمقراطية، بعد أن تأكد أن ميلادها لا يتحقق بمجرد إسقاط نظام سياسي، ما دامت البنية الثقافية والاجتماعية النابذة لهذا المشروع المجتمعي، ما تزال تمثل واقعا كابحا يجثم بظله على مختلف مجالات الاجتماع السياسي، وأبان أن إمكانات إسقاط نظام سياسي "أسهل" من بناء نظام ديمقراطي، وأفرزت هذه اللحظة كذلك نزوعا نحو مأسسة التسلط و ترسيخ العنف، مستفيدة أساسا من النسيج الاجتماعي الهش و النقص الحاد في الوعي بقيم المواطنة والاندماج ضمن فلسفة الاختلاف المكونة للبنية الاجتماعية الوطني، إذ تشير معطيات الحراك الراهن إلى استمرار هيمنة النسق نفسه، وتجديد وتجدير أساليبه و"قيمه" الخاصة، بعناوين تحرير الشعوب ونشر الديمقراطية والعدالة والحرية، ولا شك أن الأيديولوجيا المهيمنة تعمل على حماية النسق وضمان استمراريته، وطبيعي أن تروم من وراء ذلك ضمان مصلحة الفئة المهيمنة، وإقناع الفئة المهيمن عليها بالقبول والانصياع، يفضي كل ذلك إلى تكريس ديمقراطية منغلقة في أحسن الأحوال، ديمقراطية مسمومة تضيف الدولة والسلطة الدائرة في فلكها إلى قائمة الدول الفاشلة تنمويا وسياسيا، وإعادة إنتاج الإعاقة والإسهام في تقعيد التقليدانية وتوظيفها في إعادة الإنتاج الاجتماعي وفي سير الدولة ومؤسساتها وفي اشتغال نظام إضفاء المشروعية.

لا غرو، أن عملية التغيير الساعية إلى بناء الديمقراطية لا يمكن أن تتم إلا بالطرق السلمية والمدنية، والتي يلعب فيها العامل الذاتي دورا حاسما وموجها من خلال الوعي والإرادة والتنظيم، ويؤمن فيها بالتشكل والنمو والتطور وفق ما تقتضيه هذه العملية من إيمان بقيمة التراكم والنسبية التي لا تمارس السحر على الواقع الاجتماعي، بقدر ما تقدم إمكانات النقد. كل ذلك بغاية نسج مقومات الفكر الاختلافي، وإدماج مكوناته في الثقافة المحلية إلى جانب التسامح حتى يتسنى تقديم إرهاصات المجتمع الديمقراطي والحقوقي، الذي يقتضي فتح الفضاء العمومي على قيم الصفح والتسامح والعفو والغفران والرحمة، التي تعد قيما مثلى لتحرير الإنسان من جراحات الذاكرة ومحن التاريخ وإهانات الذات الناتجة عن الطغيان والاستبداد.
#2#
يروم السعي نحو النمو والتقدم والتحديث إشراك كل المكونات المعبرة عن النسيج الاجتماعي في مجمل مراحل البناء من صياغة الخيارات إلى الإنجاز مرورا بالتقييم، وإتاحة شروط الإبداع بتوفير الفضاء الأمثل لممارسة النقد الخلاق، وخلق المثل الثقافية والأخلاقية والعلمية الداعمة للثروة بالمعنى المادي والرمزي، في هذا السياق يستوجب النظر إلى فعاليات المنظمات غير الحكومية بوصفها مدخلا مهما لتعلم الديمقراطية وتنمية وترشيد المشاركة السياسية والاجتماعية بين أفراد المجتمع، عن طريق توسيع القاعدة الاجتماعية المناصرة لقيم المشروع المدني بمراجعة محتوى التعليم ومنهاج التربية، لا الاكتفاء فقط بنشره وتعميمه، هذا التفكير يفضي إلى إقامة التوازن بين حق الأفراد وحق الأوطان، والتمييز بين نقد الدولة والدفاع عن نظامها، وعقلنة ممارسة سلطتها، وبين السعي لنقضها من الأساس، حتى و إن توافرت الضمانات الدستورية، فهي غير كافية للحفاظ على الحق والواجب، وإتاحة سبل امتلاك الفضاء العمومي، وحماية المجتمع المدني من أي تحريف؛ إذ تكاد تجمع أدبيات التنمية على أن نمو وازدهار العمل غير الحكومي هو بمثابة المقياس الدال على مدى نضج العلاقات الاجتماعية وعقلانيتها، ومؤشر معبر عن درجة تعانق السياسة بالمجتمع، بل إن نضجه ـ المجتمع ـ يعطل لجوء الدولة للقهر، ويحول دون تغيير السلطة بوسائل عنيفة، ويجعل التغيير الاجتماعي مشروطا بتغيير ثقافي وذهني ونفسي طويل الأمد.

أمام هذه الصورة الهلامية وبناء على غياب سياسة إعلامية تكفل الأمن الإعلامي، استدار العديد من شرائح المجتمعات العربية نحو وسائل الإعلام الجديدة "وسائل التواصل الاجتماعي"، بهدف الحصول على المعلومة وتشييد شبكة تواصلية، أدت إلى زيادة منسوب الوعي السياسي لدى الشباب خاصة في تمثل الفروق الشاسعة في المستويات المعيشية وبحجم الفساد والظلم. بحيث استقى العديد من فئات الشباب تصوراتها وأفكارها من هذه الشبكة.

لذلك، يقاس الأمن الإعلامي وفقا لما تصل إليه ورقة الباحث اليملولي بإشراك جميع الحساسيات النقدية والثقافية في مشروع التغيير المجتمعي، وتوسيع مشاركتها بناء على مشروعية أفكارها، وليس بناء على موقفها وموقعها السياسي والعقائدي، وخلاف ذلك يؤسس لسياسة التهميش الشديدة الارتباط بنظام الشرعية السياسية والاجتماعية، وتأجيل مطلب التنمية السياسية.

الأكثر قراءة