سؤال الهوية .. تراجع العولمة وصعود القومنة
منذ عقود من الزمن انحصر الكلام عن مسائل الهوية ومشتقاتها في دوائر العالم الغربي المتنور، ليبقى حكرا على البلدان النامية والمتخلفة على سبيل الإجمال، والعربية والإسلامية منها على وجه التخصيص. فمن يُساجل في مثل هذه المواضيع؛ في عصر المواطنة العالمية وقيم حقوق الإنسان الكونية، أشبه ما يكون برجل دين يحاول إقناع الحاضرين في مجمع علمي بخطأ قواعد النظام الشمسي.
لكن متغيرات العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وما تلاهما من تطور للأحداث على الساحة السياسية الغربية؛ منذ بداية الألفية الثالثة حتى وقتنا الراهن، ثبتت فعلا أن التجاوز المزعوم لأسئلة الهوية وقضاياها لحظي وظرفي، أملته اعتبارات الرفاه الاقتصادي والرخاء الاجتماعي التي عاشت على وقعهما البلدان المتقدمة في جانب، وفرضته في الجانب الآخر بقايا الذاكرة الجمعية من الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي صنعت وهم الانتماء الإنساني المطلق؛ أي الانتماء إلى عالم الإنسان الحر.
إذ سرعان ما أنعشت الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية المتوالية الشعور بالحس القومي، وأحيت الطابع العرقي، وأضفت على الانتماء بعدا ضيقا بأفق منحصر. أمر استغله بذكاء وفطنة زعماء سياسيون للوصول إلى مواقع السلطة والحكم بسهولة، علما أن الخطاب المتداول لدى هؤلاء كان حتى الأمس القريب محظورا على العامة التي تخجل من الجهر به، فهو ضد القيم "الغربية الكونية"؛ لدرجة ينعت معتنقه بالعنصري والإقصائي والشوفيني، فأنَّى له أن يتردد على ألسنة قادة أحزاب ومسؤولين في مواقع السلطة والتدبير.
ولا بأس من توضيح مفاده أن رأسمال اليمين الشعبوي في الغرب حاليا هو هذا الخطاب، فالشعب عند هذا التيار السياسي يقدَّم بوصفه وحدة إثنية متجانسة ثقافيا، وذات تاريخ واحد مشترك. ما يفيد ضمنيا الابتعاد عن فكرة المواطنة بوصفها حجر الأساس في بناء الأمة. وتتمثل استراتيجيته في أن يطرح نفسه كحام لهوية الشعب ونمط حياته، ويفضل مصالح الشعب المعرف إثنيا على مصالح "الآخرين".
يتقاسم أنصار الهويات الجماعية القومية المنطلقات نفسها تقريبا، فهم لا يترددون في مناصبة العداء – ولو على المستوى الظاهري- لثقافة المؤسسات والنخب والخطاب السياسي العقلاني، حتى يثبتوا ميلهم نحو الطبقات الشعبية، وبشكل خاص عندما يرددون خطابها المعادي للمؤسسات، لكن أمرهم يفتضح سريعا عندما يقبلوا بالمؤسسات كسقف للاشتغال.
إلى جانب عداء آخر موجه ضد السوق الحرة والعولمة، فهي تزيد من خسائر الأوطان المحددة على مقاسهم، لأن المستفيد الأكبر من هذا التوجه الاقتصادي هو الأجنبي المهيمن الراغب في فرض سيطرته. وحتى يلقى هذا الطرح قبولا حسنا، يطعم بسياسة ذات نزعة حمائية، وبذلك يضمن اليمينيون الشعبويون في صفهم حضورا ومساندة من بعض طبقات اليسار السياسي.
وتستمر دائرة هوية الجماعة القومية في الاتساع بضم العنصريين والقوميين المتطرفين، ممن لا يترددون في رفض سياسات الهجرة، وموجات اللجوء واستقدام العمالة الأجنبية. فتلك عوامل تهدد وجودهم كأغلبية عرقية أو دينية (البيض، البروتستانت،...) في بلدانهم، مع ما يحمله ذلك من ضياع تلك الهوية "النقية" والأصل "الصافي" عبر بوابة التعددية الثقافية.
#2#
وآخرها طبعا شماعة "الإسلاموفوبيا"، والربط القسري الاستلزامي بين الإسلام والإرهاب، لدرجة صار فيها كل حادث أو اعتداء يقع في أي نقطة في العالم الغربي، يقدم بأنه إرهاب "ديني" وتطرف "إسلامي" حتى يثبت العكس. وبذلك استطاع هؤلاء قلب قاعدة قانونية عريقة تفيد بأن البراءة هي الأصل، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، لتصبح والحالة هذه، أن الإسلام (المسلمين) متهما حتى تثبت براءته؛ أي أن الأصل عندهم هو الإدانة؟!
مع تنبيه مهم ومثير في الوقت نفسه؛ قلما نأخذه في الحسبان، يتعلق بالانقلاب الذي لحق بعض التيارات اليمينية حين استبدلت معادية السامية في الماضي بكراهية الإسلام والمسلمين حاليا؛ كما حدث مع الجبهة الوطنية في فرنسا برئاسة جان ماري لوبان، التي أقدمت على هذا الانقلاب إلى جانب انتقالها من حزب يتبنى الليبرالية الاقتصادية نحو اعتماد السياسة الحمائية ضد العولمة.
بشكل تدريجي إذن تتمايز العلاقة بين مركبات هوية الجماعة القومية وهوية الدولة، فاللاجئ أو المهاجر أو الأجنبي يصبح بكامل مواطنته، بمجرد الانضباط لقواعد للمواثيق والعقود الجاري بها العمل في البلاد (الدستور، القوانين، الأعراف...). هذا يعني أنه ينال هوية الدولة مثله مثل أي مواطن آخر، ولدت وترعرع في البلد بلا أي فارق أو تمييز بينهما.
لكن أنصار هوية الجماعة القومية يرون أن تلك المساواة تبخسهم حقهم، إذ كيف لمن ينتمي إلى النبلاء الأحرار، أو أحفاد الآباء المؤسسين، أو سلالة العرق الأبيض حامل رسالة التنوير وناشر قيم الحداثة "الكونية"، أن تتساوى هويته مع مواطن أسود من إفريقيا أو عربي من المشرق أو هندوسي من أعماق آسيا أو أمازيغي من شمال إفريقيا.
وبذلك يتأكد أن موجات الشعوبية المتصاعدة في أوروبا، التي يتوقع أن تكون 2017 سنتها بامتياز نظرا لتلك المحافل الانتخابية التي نحن مقبلون عليها (فرنسا، ألمانيا، هولاندا،...)؛ في عمقها ثقافية هوياتية، لكنها تتوارى حتى لا يسقط بروزها خلف قناع القيم الكونية والإنسانية، وتتلبس لبوس السياسية أو الاقتصاد.
لكل ما سبق يسود شبه إجماع في أوساط الباحثين الموضوعيين المتابعين لقضايا وشؤون الدول الغربية أن مشكلات الغرب الرئيسة في السنوات المقبلة؛ إن لم يكن الأمر لعقود، ستكون داخلية بامتياز، أساسها الصراع على هوية هذا البلد أو ذاك القطر، بل لا يتردد البعض في عودة خطابات وتصنيفات من قبيل "الشعوب الأصلية"، "أصحاب الأرض".