مهاتير: «ماليزيا يتحكم فيها اللصوص» .. ألف علامة تعجب
لا يمكن لأحد أن يجادل في أن الدكتور مهاتير محمد زعيم ماليزي عصامي محنك، وصاحب إنجازات عظيمة لبلاده، وأول رئيس لوزراء ماليزيا من خارج النخب الملكية الثرية. غير أن ثمة مشكلة ملازمة للرجل منذ تقاعده هو عشقه للأضواء. صحيح أنه يغيب عن المشهد أحيانا، فيخيل للمراقب أنه قرر الانسحاب الأبدي من الساحة السياسية، لكن الصحيح أيضا أنه يفاجئ الناس بظهوره مجددا.
ودليلنا أنه انضم أخيرا، من بعد صمت وانزواء، إلى المتظاهرين المطالبين باستقالة رئيس الحكومة الماليزية الحالي نجيب رزاق، متهما إياه بسرقة الأموال العامة، واستغلال منصبه في الكسب غير المشروع، ومضيفا أن ماليزيا "يتحكم فيها اللصوص" حسب تعبيره.
المتابعون للشأن الماليزي لم يستغربوا موقف مهاتير هذا؛ لأن الرجل منذ تركه السلطة طواعية عام 2003، وهو لا يكف عن اتهام كل خلفائه بالفساد أو التقصير، علما بأنه هو شخصيا من أسهم بطريقة أو بأخرى في الإتيان بهم إلى السلطة؛ بوصفه الأب الروحي للمعجزة الماليزية، والرمز الأبرز في صفوف حزب المنظمة الوطنية المتحدة للملايو (أومنو) الحاكم دون انقطاع منذ استقلال البلاد عام 1957.
فقد اتهم نائبه وصديق عمره وساعده الأيمن أنور إبراهيم بالفساد والإفساد، وجره إلى محاكمات عبثية كيدية بتهمة اللواط، فقضى نهائيا على حلم وصوله إلى السلطة التي وعده بها، مثلما قضى قبل ذلك على حلم اثنين من نوابه السابقين، وهما: "موسى حاتم" و"غفار بابا".
وبسقوط أنور إبراهيم ودخوله المعتقل، وقع اختيار مهاتير على نائبه المطيع غير المثير للجدل "عبدالله أحمد بدوي" ليحل محله وقت تقاعده. وقام بتسويقه مسبغا عليه كثيرا من المديح، وواصفا إياه بالشخص الوحيد القادر على مواصلة المشوار، ومواجهة ما تتعرض له ماليزيا من مخاطر داخلية وخارجية، لكن بدوي سرعان ما تعرض لسهام مهاتير الذي انقلب عليه 180 درجة إلى حد وصفه بالشخصية الرخوة والفاشلة التي "لا تعرف كيف تدير البلاد" ، والرجل الفاسد الذي أرسى المناقصات على أقاربه (في إشارة إلى حصول صهر بدوي على مناقصة بناء مطار محلي)، ثم مطالبته بُعيد انتخابات 2008 العامة بالتنحي، وهو ما فعله بدوي بعدما تجرع صامتا الإهانة تلو الإهانة، على الرغم من انحداره من عائلة دينية ذات شأن في ماليزيا.
آنذاك فسر بعض المراقبين موقف مهاتير بأنه محاولة استباقية لردع بدوي عن مجرد التفكير في فتح ملفات فساد متعلقة بالحقبة المهاتيرية الطويلة التي دامت 22 عاما. وكان هناك من زعم أن السبب هو وقوف بدوي في وجه رغبات مهاتير في إدارة شؤون البلاد من خلف الكواليس، على نحو ما فعله "لي كوان يو" في سنغافورة لبعض الوقت بعد تقاعده.
وهكذا اختارت ماليزيا عام 2009 نجيب رزاق، الذي كان قد شغل حقائب التربية والدفاع والمالية والاتصالات في أوقات مختلفة، ليكون زعيما جديدا لها، بدعم حزبي من مهاتير والمقربين منه، خصوصا أن الرجل هو ابن الأمير تون عبدالرزاق (ثاني رؤساء حكومات ماليزيا)، الذي كان له دور في الصعود السياسي لمهاتير داخل أروقة الدولة والحزب الحاكم، مشرعا فوزيرا فنائبا لرئيس الحكومة، إلى أن وصل إلى هرم السلطة عام 1981.
الغريب في الأمر هو أن مهاتير، الذي وصم كل خلفائه بالفساد، قال ذات يوم، في معرض الدفاع عن نفسه وأولاده الكثر في مواجهة الصحف والجماعات التي اتهمتهم بالفساد والمحسوبية والكسب غير المشروع، إن الفساد موجود في كل مكان، ومتوقع على أي أرض تشهد حراكا تنمويا، مضيفا مقولته الشهيرة "إن من لا يعمل هو وحده بمنأى عن الفساد".
إن هذا الأسلوب المهاتيري في تحطيم صورة كل من اختارهم الرجل بنفسه كخلفاء له ليس له تفسير، في رأي كثيرين، سوى أن مهاتير، منذ تركه السلطة، يعيش حالة مرضية سببها مخاوفه من نجاح أحدهم في تحقيق إنجازات تفوق إنجازاته، فيزاحمه بالتالي على لقب "صانع المعجزة الماليزية".
لكن ما تهمة نجيب رزاق التي كسرت فجأة صيام مهاتير عن الحديث، وجعلته يلتحق بجيش المتطاولين على رزاق، الذي لم يبق له في السلطة سوى أقل من 20 شهرا على موعد الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في أغسطس 2018؟
ملخص القصة أن رزاق - بحسب مصادر المعارضة الماليزية والادعاء الأمريكي - متهم بتحويل مئات الملايين من الدولارات من صندوق سيادي أسسه سنة 2009 لتعزيز الاقتصاد الماليزي تحت اسم "MDB1"، إلى حسابه الشخصي لإنفاقها على شراء عقارات لنفسه وأسرته وشركائه في الولايات المتحدة. وقد نفى رزاق هذه التهمة، مثلما نفى من قبل تهما طالته حول تلقيه عمولات من شركات غربية موردة لأسلحة الجيش الماليزي، مشيرا في هذا الصدد إلى أن المفوضية الماليزية العامة لمكافحة الفساد أجرت تحقيقات مكثفة، فثبت لديها أن "الأموال الموجودة في حساباته المصرفية لا علاقة لها بأموال الصندوق السيادي"، وأنه لم يرتكب أي مخالفة للقانون تستوجب المساءلة.
وأخيرا فإنه ما تجدر بنا الإشارة إليه هو أن بعض وسائل الإعلام الماليزية لم تستبعد أن تكون هناك علاقة ما بين حدة الاتهامات الموجهة إلى نجيب رزاق بغرض إسقاطه، والسياسات الخارجية التي تنتهجها حكومته فيما يخص علاقات التحالف الاستراتيجي بين ماليزيا ودول الخليج العربية، خصوصا إذا ما علمنا أن المعارضة الماليزية التي تتولى إدارة عملية التأجيج والتظاهرات الشارعية ضد رزاق تهيمن عليها حركة الإخوان المسلمين، أو حركات إسلاموية قريبة منها، علما بأن هذه الجماعات نفسها تولت عام 2011 قيادة ما سمي بـ"الربيع الماليزي" تأسيا بما قامت به حركة الإخوان المسلمين في مصر.