الإعلامي العربي .. والأزمات
لن نجازف إن قلنا إن الدول العربية تمر بأزمة. ولن نجافي الحقيقة إن قلنا إن الوضع العربي لا يسر ناظره.
هزيمة 1967 وسقوط عساكر دول عربية ثلاث في أيام ستة قد تبدو قزما أمام الكوارث التي تحيق ببعض الشعوب العربية.
الوضع "الانكساري" الذي تمر به المنطقة مخيف أكثر من تبعات هزيمة 1967. لماذا؟ لأن المعارك التي تدور رحاها في أكثر من مكان صار إخمادها ليس أمرا عسيرا بل أصبح انتشارها ممكنا وربما حتميا.
ليس هذا فقط. المعارك أخذت تطحن الأخضر واليابس وتزيل دولا من على الخريطة وتعيدها إلى عصر ما قبل الصناعة.
نحن لسنا في باب تجميل الصورة لأن الأطراف المتصارعة تقود حروبا ومعارك أغلبها بالنيابة.
ليس باستطاعة أي مركز بحثي تقديم إحصاء دقيق عن عدد وميول المجموعات المسلحة الموجودة على الساحة في البلدان العربية.
والدول والحكومات التي تقتل شعوبها لا تقاتل تحت راية الوطن بل تحت رايات أجنبية تحدد لها خطوطها وأهدافها.
والذين يسيّرون الأمور من بعد هم في منأى عن المحرقة التي تدور مثلا رحاها في حلب الشهباء الجريحة أو الموصل الحدباء النازفة.
وينسى كثيرون أن المحرقة هذه لا يمكن لها أن تنطفئ وتستكين طالما وقودها هم العرب والمسلمون الذين يقاتل بعضهم بعضا إنابة عن دول وحكومات أجنبية لا تكن لهم حبة خردل من المودة.
لم يكن بودي اقتحام باب السياسة ولكن أظن أن هذه المقدمة الوجيزة كان لا بد منها لفهم ما يدور في رحا الخطاب الإعلامي العربي.
يبدو لي أنه ليس هناك عالم أو مفكر يحلل للعرب خطابهم الإعلامي من وجهة نظر نقدية، أو ربما العرب لم يدخلوا باب تحليل الخطاب بعد.
الخطاب الإعلامي العربي مرآة تعكس الواقع الاجتماعي العربي. ولن نبالغ إن قلنا إنه يتحمل مسؤولية قد تكون مباشرة لما آل إليه الوضع.
يغيب عن الخطاب الإعلامي العربي العقل أو الفكر النقدي. ومن خلال تجربتي أرى أن الفكر النقدي أو التحليل النقدي مهمش حتى على مستوى الدراسات الأكاديمية التي تعنى بشؤون الخطاب بصورة عامة والخطاب الإعلامي بصورة خاصة.
تنمية العقل النقدي تحتاج إلى دراسة تتضمن نتاجات مفكرين كبار على مستوى العالم الذين علمونا كيف نشغل عقلنا. تشغيل العقل يبدأ أولا بالتحدي، انطلاقا من تحدي النفس ومن ثم تحدي السلطة، أي سلطة، دينية كانت أم مذهبية أم سياسية أم غيرها.
لا أعلم كيف نستطيع تدريس الإعلام أو كيف نقوم بتغطية الأحداث كصحافيين ونحن لا معرفة لنا بتحليل الخطاب والنظريات النقدية التي ترافقه.
النظريات النقدية الحديثة لاسيما التي أتى بها مفكرون وفلاسفة من أمثال ماركس وهورخيمروكنت وهيجل وفوكو وويتكنشتاين وبارثيس وكادامار وهبرماس وكمس ولوكاس ودريدا وآخرون جزء من مناهج تحليل الخطاب والدراسات الإعلامية التي تعنى بشؤون الخطاب واللغة.
لا يسع الحيز المخصص لهذا العمود الغوص في تفاصيل النظريات التي أتوا بها ومن دونها لا تستقيم منهجية أي بحث في الخطاب الإعلامي ولن تكون لمناهج أقسام أو كليات الإعلام والاتصال والصحافة في الجامعات مصداقية دون تطبيقات عملية لها في الكتابة وتحليل المادة الإعلامية وخطابها.
الفكر النقدي لا يقبل الأطر الخطابية الجاهزة من أين أتت ومن أي مصدر قبل تمحيصها والتحقق من مصداقيتها من خلال تحد واضح للسلطة التي تتبناها أيا كانت.
والفكر النقدي لا يتفق مع النقل دون وعي وتشغيل للعقل ووضع أي نقل كان ضمن زمن كانيته وبيئته ومن ثم معالجته خارج نطاق الميول ثقافية كانت أو غيرها.
الخطاب الإعلامي العربي يفتقر إلى النقد ممارسة وتدريسا ونظرية. يشبه إلى حد كبير الخطابين الديني والمذهبي الذي ينقل دون مراعاة لإشغال الفكر والعقل ووضع النصوص والأحداث ضمن سياقها ونسقها الذي أتت فيه وليس التي أنا أريدها لها.
آفة الخطاب الإعلامي العربي أنه لا يختلف كثيرا عن عميلة النقل والتقليد والتكرار الممل لأطر خطابية ذات ميل واضح لا يتجاوز ميل أصحابه ومالكيه.
وهكذا يتحول نقل الحدث في كثير من الأحيان إلى لغة ما هي إلا تفنن في البلاغة الخطابية لتجييش مشاعر الناس وفرض قناعات خاصة عليها.
وهكذا أيضا ترى أن نقل الخبر في الغالب ومن أكثر وسائل الإعلام تأثيرا ترافقه مقدمة خطابية بلاغية حماسية مثيرة غايتها ليست الموضوعية والنزاهة أو الرأي والرأي المضاد بل فرض الرأي الواحد ونقله وكأن ليس هناك رأي آخر.