التجنيد وتعزيز التحول الاقتصادي «2 من 3»
قدم كاتب هذه السطور، في الجزء الأول من أجزاء المقال الثلاثي، مدخلا لمقترح حول إمكانية تنظيم المعروض من طالبي الوظائف السعوديين باستحداث برامج مشابهة أو موازية للتجنيد ترتكز على مبدأ الخدمة الوطنية مع إكساب المهارات المطلوبة في سوق العمل لدى القطاع الخاص، بما فيها مهارات الإنتاجية وأخلاقيات العمل والانضباط وصفات ومهارات أخرى مرتبطة بالمواطنة الصالحة. وتمت التوصية بأن يبنى على تجارب برامج الخدمة الوطنية وإكساب مهارات العمل لدى دول أخرى مثل ماليزيا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة، على أساس شراكة فيما بين القطاع الخاص والقطاع العام. أما من ناحية تنظيم جانب الطلب من سوق العمل بشكل يولد عددا كبيرا من الوظائف الجاذبة للشباب السعودي، فهناك عدد محدود من القطاعات التي يمكن للاقتصاد السعودي من خلالها أن يحقق ذلك ليقابل عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من السعوديين الداخلين إلى سوق العمل سنويا. ولكي يتم توليد عشرات آلاف الوظائف سنويا الجاذبة للسعوديين يجب أن يتم تحفيز إعادة تصميم نماذج العمل في هذه القطاعات، أمثال التشييد والبناء والسفر والسياحة (بمختلف أنواعها) والبرمجيات باللغة العربية وخدمات التقنية والاتصالات واللوجستيات (النقل والتوزيع وغيرهما). ويجب أن يكون أنموذج العمل المستحدث يعتمد على توظيف التقنية ورأس المال بكثافة لتوليد وظائف ذات مهارات ودخول مرتفعة نسبيا لتجذب إليها السعوديين مع الحفاظ على الكفاءة الإنتاجية (ربحيا)، أو تحسينها بواسطة اقتصاديات الكم والكيف.
وسيتم التركيز في الجزء الثاني من هذا المقال الثلاثي على قطاع التشييد والبناء. إن هذا القطاع بتوليفته وأنموذج عمله الحالي لن يحقق حجم ودرجة الجذب المطلوب للسعوديين، عدا عن سلبيات أخرى مهمة يمكن معالجتها عن طريق إعادة تصميم أنموذج وأساليب عمله. أما عن سلبياته الأخرى فتتمثل في الهدر في الاستهلاك وضعف جودة مخرجاته والاعتماد الكثيف على العمالة الرخيصة المستقدمة. إن المملكة، نتيجة صغر أعمار معظم سكانها، تواجه تحدي مضاعفة الطلب على الوحدات السكنية من ستة ملايين حاليا إلى 12 مليونا أو أكثر على مدى عشر سنوات إلى 15 سنة (أي بحلول 2030). إن هذا التحدي يفاقم عددا من الإشكاليات التنموية الكبيرة التي تواجهها المملكة. أولا، إذا ما استمر أنموذج بناء المساكن الحالي فسيؤدي ذلك إلى زيادة كبيرة في توظيف العمالة الأجنبية على حساب فرص تكوين وظائف كافية للسعوديين. ثانيا، إن الخواص المتدنية للعزل الحراري واستهلاك الطاقة والمياه بأسلوب البناء الحالي تفاقم تردي كثافة استهلاك الموارد النفطية والغازية والمائية والبيئية في المملكة. وللعلم فإن معدل استهلاك الفرد للطاقة والمياه وانبعاثات الكربون لدينا من أعلى المستويات بين دول العالم (بين أعلى 10-20 في المائة من الدول استهلاكا للمياه والكهرباء للفرد، وبين أعلى 10 في المائة من الدول لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون للفرد حسب إحصائيات أجهزة الأمم المتحدة والأجهزة الأممية الأخرى)، في حين أن المملكة ملتزمة طوعيا (ليس التزاما قانونيا)، أمام قمة المناخ في باريس، بالحفاظ على أو تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2030، وهو ناشئ من عدة مصادر لعل من أهمها استهلاك الطاقة والمياه بالمنازل والسيارات والزراعة. يشكل إذا مضاعفة أعداد الوحدات السكنية من ستة ملايين إلى 12 مليون وحدة بحلول 2030 تحديا هائلا ولكن يوفر فرصا كبيرة أيضا. كيف؟ إذا ما تم تحديث أساليب ومواصفات وتقنيات البناء على المدى القصير والمتوسط، ثم استحداث تقنيات وأساليب ومواصفات جديدة على المديين المتوسط والطويل، فيمكن تكوين قطاع جاذب لتوظيف أعداد كافية من السعوديين بالتزامن مع تحسين جودة البناء والعزل الحراري واستهلاك الطاقة والمياه والحد من الزيادة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. أما عن مفتاح تطوير أساليب وتقنيات بناء المساكن لتحقيق هذه الأهداف والمخرجات فيكمن في توظيف اقتصاديات الكم والكيف وتقنيات الميكنة لعمليات بناء المساكن، سواء باستخدام معامل إنتاج الوحدات الجاهزة أو شبه الجاهزة بتوظيف مواد مستحدثة مثل الخرسانة الخلوية مسبقة الصنع أو مواد وتقنيات وأساليب أخرى مستحدثة قادرة على استقطاب عمل السعوديين في بيئة مكيفة نسبيا صيفا وشتاء، عدا عن استخدام الميكنة الحديثة في مواقع البناء ليلا في الصيف ونهارا في الشتاء. أما على المديين المتوسط والطويل فيمكن توظيف وتطويع أجهزة البناء ثلاثية الأبعادContour Profiling or 3 D Printing والوحدات الآلية المبرمجة لصف الطابوق وعناصر بناء أخرى، عدا عن آلات صنع الطوب الطبيعي في الإسكان الاجتماعي وغيرها تقنيات كثيرة مستحدثة يمكن توطينها. إذا أخذنا في الاعتبار حجم الاستثمار المطلوب لبناء ستة ملايين وحدة سكنية على مدى 10-15 سنة فمن المجدي أن يتم الاستثمار في البحث والتطوير عن طريق توظيف مراكز أبحاث داخل المملكة وخارجها بشكل تنافسي، مثل مركز أبحاث جامعة الملك فهد ومركز جامعة الملك عبدالله ومركز جامعة ستانفورد لإجراء أبحاث تطبيقية على تقنيات مستحدثة، على المديين المتوسط والطويل، للوصول لأساليب وتوليفات بناء مساكن تستهدف توظيف السعوديين في بيئة ووظائف جاذبة، بالتزامن مع تحسين جودة مواصفات البناء وتحقيق مخرجات أفضل بكثير من حيث استهلاك الطاقة والمياه والحد من انبعاثات الكربون، بما في ذلك توظيف تقنيات الألواح الشمسية والتدوير الجزئي لمياه ووسائل توفيرها. وقد تكون هناك فرصة لتصدير هذه التقنيات والخدمات لبناء المساكن على المديين المتوسط والطويل لدول شابة في إفريقيا وآسيا. ويمكن انتهاج أساليب الاستثمار المكثف برأس المال وبالتقنية وباقتصاديات الحجم في قطاعات أخرى مثل السفر والسياحة والضيافة والبرمجيات العربية واللوجستيات.
وسأختم مقترحاتي لتنظيم سوق العمل قطاعيا لتعزيز التحول الاقتصادي نحو 2030، عن طريق برامج خدمة مدنية مشابهة أو موازية للتجنيد، بالجزء الثالث والأخير من هذا المقال الثلاثي.