الغرب .. «الديمقراطية» تأكل أبناءها
هل ضرب العالم موعدا جديدا مع الأزمة، هذه المرة في السياسة وليس في الاقتصاد؟ أليست المتغيرات المتلاحقة في أكثر من دولة ضمن المحور الغربي دليلا ساطعا على أن النظام الديمقراطي يعيش انتكاسة كبرى، نحن أمام بعض الأعراض منها فقط؟ ألم يثبت التاريخ مرة أخرى، في واقعة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وقبلها في مغادرة بريطانيا حظيرة الاتحاد الأوروبي، أن مساره السياسي ليس خطيا في اتجاه واحد، وأنه معرض على الدوام للارتداد والتراجع، وأن الديمقراطية التي تبقى أحد عناوين عصر الحداثة تظل مشروعا غير مكتمل.
ربما من العجيب أو استهزاء التاريخ أن تنقلب دول غربية؛ كانت تخشى حتى الأمس القريب، من سيطرة الحركات القومية أو العرقية أو الأصولية.. أو غير ذلك من الأوصاف، على أنظمة الحكم في بلدان العالم الثالث. بدعوى أن ذلك يهدد روح الديمقراطية وقيم الحرية، التي نذر الغرب نفسه ساسة وشعوبا لنشرها، بشعارات عديدة منها: الحماية، الانتداب، التحديث والعصرنة.
تنقلب هذه الدول اليوم على عقبيها، ويرتد جزء كبير من مواطنيها عن تلك القيم، باختياره انتخاب أشخاص أو التصويت لأحزاب، تعلن صراحة عداءها لأفكار ومبادئ من صميم الفكر الديمقراطي، وكل ذلك بملء الإرادة الحرة لهؤلاء الأفراد، وعبر صناديق الاقتراع.
لا شك أن التجربة السياسية - في السياق الغربي راهنا - قد بلغت منعطفا تاريخيا خطيرا، بتخليها تدريجيا عن قيم الليبرالية والموضوعية والنزاهة والشراكة الإنسانية والانفتاح الكوني، التي طالما تغنى بها كثير من مثقفيها ومفكريها، حتى إن بعضهم "فرانسيس فوكوياما" أعلن في لحظة ما أن التاريخ انتهى عند حدود الليبرالية السياسية والثقافية، وأن من يتخلف عن ذلك الركب سيكون بمنزلة عربة ضائعة في الصحراء تسير على غير هدى. ما جعلها تبلغ أقصى حدود المفارقة ما بين قدرة السياسة على صنع الآمال الكبرى في التغيير، وبين إمكانية تعبيرها عن الانحسار والتيه والأزمة.
لم تعد معالم الأزمة المتفاقمة قادرة على البقاء طي الكواليس أو خلف الاستعارات اللغوية والكلمات الملطِّفة من حدتها لدى البعض، بناء على نصيحة الفيلسوف الفرنسي إدجار موران، حين دعا في أحد كتبه إلى الاقتصاد في استعمال كلمة "أزمة".
ألم يحوَّل الاقتراع العام، إحدى مرتكزات الممارسة الديمقراطية، في كثير من اللحظات إلى آلية شرعية لتسويغ سياسات لا تنطلق بالضرورة من القيم المؤسِسة للفكر الديمقراطي، وفرصة لتتويج قيادات تعلن جهارا خصومتها مع قيم التسامح وثقافة المساواة ومبادئ الحقوق الإنسانية. بهذا التحول تصير مجرد أداة تستخدمها السلطات الشعبية في جميع أنحاء العالم، دون اكتراث بجوهر وقيم الديمقراطية.
أليس صعود اليمين واليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال فوز ترمب برئاسة الجمهورية، وفوز فرانسوا فيون في الانتخابات التمهيدية الفرنسية، وقبل ذلك فوز الانفصاليين عن أوروبا في بريطانيا، ووجود سلطتين يمينيتين في هنجاريا وبلغاريا، وتحكم السلطة الشعبوية القوية في روسيا الاتحادية، بقيادة رجل من طينة فلاديمير بوتين الذي يطوي الحقيقة بيمينه ويقمع الأصوات المعارضة له، مرددا شعارات خداعة، ترتدي رداء القومية والمصلحة الوطنية "روسيا أولا وفرنسا أولا وأميركا أولا".
هل تحتاج الأزمة إلى دليل حين تغزو موجات الشعبوبية دولا توصف بمهد الفكر الديمقراطي الحديث، عندما يقرر مواطنوها الانقلاب على الإرث الليبرالي المتراكم. وكأنهم يحققون نبوءة كريستوفر لاش في كتابه "ثورة النخب وخيانة الديمقراطية" (1995). كل ذلك خوفا من أن يضيع إرث الآباء المؤسسين، ويحل غيرهم من المهاجرين محلهم، ناسين أو متناسين أنهم أيضا ينحدرون من مستوطنين استقروا بحد السيف، أو من مهاجرين توافدوا طيلة قرون تالية.
ألم يسجل التاريخ عجز السياسيين من كافة المشارب الأيديولوجية عن تقديم أجوبة عقلانية تنسجم مع روح الفكر الديمقراطي لمشكلات متفاقمة، دون أن يعجز نجوم الخطاب الشعبوي الضحل - في حقل السياسة - عن إنتاج الهراء، وتقديمه في شكل وجبات سريعة كأجوبة عن غضب المواطنين من تركيز الثروات وانتشار الفساد وتفاقم البطالة.. إلى غيرها من الأعطاب التي تفتك بالأنظمة السياسية الحديثة.
يبدو أن التوجه العام في الغرب سائر نحو استخدام العملية الديمقراطية لتدمير المثل العُليا للديمقراطية؛ بعدما أصبحت الديماغوجية الجواب الوحيد الأوحد عن الأزمة السياسية، والانحصارية على مستوى الخيارات، وضيق أفق المناورة بحثا عن البدائل وزعزعة القناعات. لنقل بشكل أوضح إن الديمقراطية تتحول تدريجيا إلى دفاع نكوصي عن الهويات النقية، وعن أمجاد الماضي المتخيل، عوض أن تكون مغامرة إنسانية نحو المستقبل والحرية والإنسانية.
ما ينذر في المستقبل القريب بالعودة القوية إلى تيار الانكفاء على الذات عالميا؛ ومن تجليات ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقدرة دونالد ترمب على إقناع الأمريكيين بأنه الأنسب لحل مشكلاتهم، والزحف المستمر لأحزاب اليمين المتطرف في القارة العجوز "ألمانيا، فرنسا، والنمسا..." وغيرها من المؤشرات التي تؤكد اطراد ونمو الرغبة في التقوقع على الذات، وفقدان الأمل بقيمة التكتلات الدولية.
يبدو أن التاريخ السياسي الراهن يضع حدا لحقبة التقدم كي يعلن بداية فترة الارتداد، فالعالم اليوم يستعيد روح القرن التاسع عشر الاستعماري، حيث ضاعت القواعد والأعراف، واختلطت القومية بالعنصرية، وصارت تتجلى في العداء للآخر المختلف، بدل أن تتحوّل إلى التزام بالتضامن الداخلي، وحيث استعادت الرأسمالية في طورها الأخير سيرتها الأولى، وتحوّلت مضاربات ومكائد وسطو مسلح أو شبه مسلح على موارد الشعوب والجماعات ونهب واحتلال.
ما يجري اليوم في المنطقة العربية صورة معبرة عن هذا التوجه العالمي إلى التحلل من كافة التزامات الجماعية، والجري وراء المصالح في صورتها القريبة والمباشرة والآنية وعدم الاكتراث بأي نتائج للأعمال، ولا أي مبدأ أخلاقي أو قيمة إنسانية.