العبور إلى القوة
السعي المردي، والطلب الفاسد المفسد لحامله، والحركة الضالة في السبيل والغاية، في الإدراك والفهم أولا، وفي العمل والطلب والسعي ثانيا، هي قطر الدائرة الذي تدور حوله دول عربية كثيرة، فالعرب أحيانا في تنمية حواضرهم من "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" (104) الكهف.
في واحدة من تحليل ظاهرة الضعف في كل شيء عند العرب المعاصرين، تتبنى نظرية غياب الألم، وتولي مبدأ اللذة حياة حاضرة في الدول النفطية الغنية، وتولي يباس الفقر في باقي الدول. ظل العربي المعاصر بين غنى يطغي صاحبه، وبين فقر يقعد بحامله من ثقله.
لم تنصهر كما انصهرت أوروبا بالحروب والدمار والجوع وتحدي القتل بالضعف، والقتل بالبرد، لأن الحربين العالميتين في أوروبا، رسختا مبدأ أن لا مكان للضعفاء في هذا العالم، وأن الدول العاجزة عن الدفاع عن نفسها هي دائما مطروحة على قائمة طعام الأقوياء، كما ترسخ مفهوم أن الغنى للدول والشعوب دون قوة تحميه، كالشاة السمينة التي يقربها سمنها وشحمها أكثر للسكين والذبح.
يقال قصر نظر الشاة يجعلها تفرط في تسمين نفسها، دون التفكير في حماية عنقها من السكين، وترسخ في أوروبا مفهوم أن السلاح الذي لا تنتجه أنت من العسير أن تتحكم فيه، أو أن تحدد وجهته، لأنك ربما رأيت نفسك في حرب مع من باعه لك، وبذا تكون مكشوفا تماما، في القدرة، والحجم، والقوة.
ما زلت في نظرية تبرير الواقع الضعيف للعرب بالترف العارض، القادم من بطن الأرض، محمولا بتكنولوجيا مستوردة بالجملة، ولم يكن لأبناء الأرض مساهمة فيها بأكثر من التنفيذ للبنية التحتية فقط، ثم يتدفق المال بالقدر الذي جعل سلوك الترف عادة يومية لطبقة كبيرة في الدول النفطية، وبدأت تعتاش الدول عليه، دون التفكير في الإنتاج والصناعة والتجارة الحقيقية.
فحتى اليابان تجرعت غصص هورشيما وناكازاكي لتكون أمة منتجة، وجدت نفسها إما أن تكون قوية في الإنتاج والصناعة وإما أنها ستكون ضحية محتملة لأحد الأقوياء معرفيا وعسكريا، سيأتيها من خلف المحيطات، والبراري، وكل الجبال الفاصلة.
أبصر اليابانيون سقوط الجغرافيا في الاحتلال والأطماع والحروب، كما أيقنوا بسقوط الضعفاء بما لا ينفعهم بكاء العاجزين الذين لم يأت دورهم بعد.
وهكذا قررت اليابان أن تكون اليابان الجديدة التي تجلس مع الأقوياء لا على قائمة طعامهم،
على الرغم من أن لهذه النظرية ما يشفع لها لتكون مقبولة ومبررة إلا أن أسبابها منفردة ليست كافية، الدول النفطية ليست بحيرة عائمة من المرجان والذهب والياقوت، وإن كان عدد الفقراء تضاءل إلا أنه ظل حاضرا وباقيا وتمدد، وإن عددا من هذه الدول تعرض فعلا للاحتلال وذاق شعبها التعذيب والتشرد وتجرع مرارة فقد الإنسان لوطنه بخوف من لا يتمكن من العودة إليه، ورغم ذلك، عادت شعوب هذه الدول إلى ما كانت عليه، وما كانت فيه، من غياب الأهداف الوطنية الكبرى والمشتركة، غياب الشعور بالتحديات الحقيقية للدول في هذا العالم، غياب الشعور بإمكانية تكرار ما حدث، وعرض، ونزل، وهو بتمامه خارج الحسبان وخارج التصور وخارج التدبير.
ربما الجزء الأكبر من المشكلة زاوية الرؤية، وزاوية النظر، التكتل وصناعة الإنسان الحر، والمفكر والمنتج، والحركة المرصدة في زمان محدود، لنكون مع الأقوياء، لا اسما على قوائم طعامهم، ولعل دول الخليج تبصر هذا المنحنى والمسار، وتبتغي إليه السبيل بقرارات غير معتادة وجريئة وسريعة جدا في قممهم الحاضرة والمرتقبة.