ظاهرة كورية احتار المراقبون في تفسيرها
إنه فعلا أمر غريب، أن تقود بلد العقول المنتجة والصناعات الإلكترونية الدقيقة والشركات الإنشائية العملاقة سيدة تحضر الأرواح، وتخضع في قراراتها ومراسلاتها لسطوة ابنة مشعوذ!
أما البلد فهو كوريا الجنوبية، وأما السيدة فهي رئيسة الجمهورية "بارك جيون هي" التي صارت اليوم هدفا لمظاهرات جماهيرية مطالبة بإخراجها من السلطة والتحقيق معها بتهمة الاحتيال والإهمال واستغلال النفوذ، من بعد أن انتخبتها الجماهير ذاتها قبل نحو أربع سنوات بفارق كبير عن أقرب منافسيها، كنوع من الحنين إلى زمن والدها الدكتاتور "بارك تشونج هي" الذي حكم من عام 1961 وحتى مقتله غيلة برصاصات رئيس مخابراته في 1979، الذي نجحت كوريا في عهده في تحقيق نمو اقتصادي مثير للإعجاب وبالتالي إرساء قواعد دولة صناعية رائدة.
والحقيقة أن تاريخ كوريا الجنوبية منذ دخولها عهد الديمقراطية في 1987 وحتى الانتخابات الرئاسية الماضية في 2013 شهد تعاقب خمسة رؤساء على السلطة، كان لكل واحد منهم قصة مع الفساد، على الرغم من سِيَرهم النضالية الناصعة ضد الدكتاتورية، وخبراتهم السياسية والمعرفية المتراكمة، إضافة إلى عصاميتهم الفذة كما في حالة الرئيس "كيم داي جونج" ابن الأسرة المتواضعة الذي واصل دراسته في جامعة كمبردج البريطانية اعتمادا على نفسه، فوصف لاحقا بأكثر رؤساء آسيا علما وثقافة، وحالة الرئيس "لي ميونج باك" الذي بدأ حياته جامعا للقمامة قبل أن يصبح رئيسا لشركة هيونداي فرئيسا للبلاد.
لقد شكل هذا ظاهرة احتار المراقبون في تفسيرها، وتباينت آراؤهم حولها. فقد عزاه البعض إلى ثقافة الفساد المتفشية في كل مفاصل المجتمع والدولة حتى وصلت إلى أعتاب السلطة القضائية. وعزاه البعض الآخر إلى الثقافة الكونفوشيوسية التي تراعي الضمانات الاجتماعية غير المكتوبة، بمعنى أن رأس الحكم أو الإدارة مسؤول شفاهة عن تقديم تسهيلات وضمانات للرعية مقابل قيام هؤلاء بدفع الثمن له في أشكال مختلفة مادية وغير مادية مثل الولاء والطاعة وتجنب الخيانة.
لكن هناك من علق على الظاهرة قائلا: "إذا كانت السلطة مفسدة فإن على الكوريين الجنوبيين أن يكونوا شاكرين لأن خمسة من رؤسائهم المنتخبين منذ ميلاد الديمقراطية في عام 1987 لم يمتلكوا من القوة والنفوذ المطلق ما يساعدهم على إخفاء فسادهم في بلاد اعتادت على أن ينخرط مديرو شركاتها وأقاربهم وزوجاتهم وأبناؤهم وبناتهم في أعمال الفساد، كل بحسب ما تحت يديه من سلطات ونفوذ وصلاحيات، بل في بلاد اعتادت صحافتها على أن تشير إلى مثل هذه القضايا قبل التأكد منها".
فالرئيس "كيم يونج سام" الذي تولى الرئاسة من 1993 إلى 1998 لاحقته قضية تورط ابنه في فضيحة تلقي رشا من إحدى شركات البلاد العملاقة. هذا ناهيك عن تردد أنباء عن قيام الرئيس نفسه بقبض رشا من مجموعة "كيا" الصناعية العملاقة مقابل دعوة رؤسائها لحفلات العشاء في القصر الرئاسي. كما ثارت تساؤلات حول مصدر الأموال الضخمة التي أنفقها على حملاته الانتخابية التي قدرت بنحو مليار دولار أمريكي.
وخلفه الرئيس الألمعي "كيم داي جونج" الحائز على جائزة نوبل للسلام الذي تولى الرئاسة من 1998 إلى 2003 تلوثت سمعته الناصعة بانخراط أولاده الثلاثة في صفقات مشبوهة واستغلالهم اسم والدهم في الإثراء غير المشروع، عدا ما قيل عن قيام الرئيس نفسه بدفع رشوة بقيمة نصف مليار دولار لنظيره الكوري الشمالي "كيم جونج إيل" كي يبعث له الأخير دعوة رسمية لزيارة بيونجيانج.
بعد ذلك جاء دور الرئيس "روه هو هيون" ابن الفلاح الفقير الذي قاد كوريا من 2003 إلى 2008، الذي خضع لتحقيقات بعد خروجه من السلطة بتهمة تلقيه مع زوجته أموالا من أحد رجال الأعمال على سبيل الرشوة مقابل تعيين شخصيات معينة في مناصب رفيعة. وبينما كانت التحقيقات مستمرة أقدم هيون على الانتحار تخلصا من العار.
أما الرئيس "لي ميونج باك" الذي تولى من 2008 إلى 2013 فقد انهى عهده بفضيحة تمثلت بتلقي شقيقه رشوة بقيمة 700 ألف دولار، والحكم على الأخير بالسجن لمدة عامين، لكن خصومه ظلوا يصفونه بإمبراطور الفساد ويزعمون أنه أخفى أرصدة واشتغل في أنشطة سرية.
أما حالة الرئيسة الحالية بارك فهي مختلفة، بمعنى أنها لم تتورط في قضايا فساد ورشوة من النوع الذي تورط فيه أسلافها، لكنها تواجه اليوم أزمة من نوع جديد، وذلك بعد تسرب أنباء في شأن انتمائها إلى طائفة دينية.
إلى هنا فليس في الأمر ما يستوجب محاسبتها أو إقالتها لأن الكوريين أحرار فيما يعتنقون. غير أن المشكلة تكمن في مزاعم بأنها أجرت داخل القصر الرئاسي طقوسا دينية لتحضير الأرواح، وارتبطت بعلاقات وثيقة مع ابنة زعيم الطائفة الدينية المذكورة "شوي تاي مين"، وهي سيدة ستينية لا تتولى منصبا رسميا وتدعى "شوي سون سيل". ويحتمل أن تكون الرئيسة، بحكم علاقتها بالأخيرة، قد أطلعتها على أسرار الدولة وخضعت لتوصياتها في موضوع تعيين المسؤولين، وأمر إجبار الشركات الكبرى مثل "سامسونج" على دفع خوات لمؤسسات غير ربحية أسستها شوي لحسابها في ألمانيا. ومن هنا لقبتها وسائل الإعلام بـ "راسبوتين" في إشارة إلى ممارستها لدور مشابه لما كان يمارسه الساحر الروسي "جريجوري راسبوتين" على القياصرة الروس.
وجملة القول إن الرئيسة بارك تواجه موقفا حرجا قبل انتهاء فترة رئاستها بعام واحد، بدليل انخفاض شعبيتها إلى أقصى حد، ومطالبة أكثر من 67 في المائة من الكوريين بضرورة إقالتها. ولم تنجح في مداواة جراحها من خلال بعض الإجراءات التي سارعت إلى اتخاذها مثل اعتذارها للشعب مرتين عن خضوعها لسطوة امرأة مشبوهة، وإجراء تطهير في حكومتها وصفوف مستشاريها، وإعلانها عن عزمها تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم أعضاء من المعارضة، ناهيك عن موافقتها على القبض على صديقتها شوي بمجرد عودتها من ألمانيا التي فرت إليها في أيلول (سبتمبر) الماضي. ولأن كل هذه الإجراءات لم تنجح في تهدئة خواطر شعبها، بمن فيهم محازبيها، فقد اضطرت أخيرا للقول: "أترك للبرلمان كل شيء بشأن مستقبلي بما في ذلك تقليص فترة رئاستي".