رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


التميز «الجنسي» يقتحم أسوار اللغة العربية

لسان العرب هو ثروتهم. ولقد منّ الله عليهم بثروات طائلة حيث تطفو في أعماق كثير من أراضيهم مخزونات هائلة من النفط والغاز وموارد أولية أخرى ربما لا حصر لها.
بيد أن لغة الضاد مقوم أساس لوجودهم كأمة وثقافة. ليس هذا فقط. لغة الضاد هي النص والخطاب الذي ترد فيه الأحاديث والآيات التي يرونها مقدسة وعلى رأسها الذكر الحكيم.
لنتصور ولو لوهلة ماذا سيكون وضع العرب كأمة وثقافة ووجود لولا لسانهم العربي الفصيح.
قلما ترى لغة في الدنيا بقي جوهرها كما هو من حيث النحو والصرف والمفردة والعبارة مثل اللغة العربية.
الذي يتقن لغة الضاد اليوم بإمكانه ومن خلال بذل جهد بسيط قراءة أقدم نصوص وصلت إلينا.
العربية ليست اللغة الأم بالنسبة لي بل لسان اكتسبته وتعلمته كما هو شأن الإنجليزية.
غير أن السعادة تغمرني وأنا أقرأ الشعر والسجع الجاهلي والنص القرآني والحديث والأدب والفنون والخطاب الذي وصلنا من العصر الأموي والعباسي والأندلسي. وأظن أن أغلب الذين يملكون ناصية هذه اللغة الساحرة يشاركوني غبطتي.
عندما صارت اللغة العربية لغة العلم والمعرفة والأدب والفنون الإنسانية برمتها في العصور الوسطى، حافظت على رونقها وتركيبها ونحوها وصرفها وقواعدها.
طاوعت اللغة العلوم السائدة ووطنتها في حينه من خلال حركة ترجمة وتعريب لم يشهد التاريخ لها مثيلا إن أخذنا بيئة القرون الوسطى في عين الاعتبار.
عندما دشن العرب حملة كبيرة لترجمة المعارف الإغريقية والرومانية والفارسية والهندية إلى لغتهم في العهد العباسي، كان جل ما يملكونه ضمن نطاق لسانهم لا يتجاوز علوم الحديث والقرآن والشعر بأجناسه المختلفة.
رغم فقر لغتهم عندئذ إلى المعارف والفنون والعلوم التي كانت سائدة لدى الحضارات التي سبقتهم التي كانت قائمة عند تأسيس إمبراطورياتهم إن في بغداد أو دمشق أو قرطبة، لم تحور حركة النقل أو الترجمة في التراكيب اللغوية للغتهم من نحو وصرف وغيره.
على العكس، تأثرت اللغات والثقافات والأمم التي تمت ترجمة علومها تأثيرا بالغا باللغة العربية؛ وهذه والحق يقال ظاهرة فريدة في علوم اللغة.
كثير من التراجم إلى العربية في هذا العهد تحولت إلى نماذج أو عيون الأدب في اللغة العربية. وكتاب عبد الله بن المقفع "كليلة ودمنة" شاهد على روعة الترجمة حيث ما زلنا نقرأه بشغف وكأنه نص كتب أساسا بالعربية وليس مترجما من الفارسية. وهذا شأن أغلب التراجم في هذا العصر الذهبي من تاريخ العرب والمسلمين.
اليوم أغلب التراجم إلى العربية ولا سيما في العلوم الاجتماعية والإنسانية تشوبها سياقات وتراكيب اللغة التي ترجمت منها. الحروف والكلمات عربية والتراكيب وكثير من التعابير والمفردات أعجمية ما يجعلها عسيرة القراءة والفهم والهضم.
النقل إلى العربية وهي لغة نحو 400 مليون نسمة من اللغات الأخرى ـــ وهذا أمر باعث للأسى ـــ لا يرقى في النوع والكمية إلى ما يترجم مثلا إلى السويدية وهي لغة ثمانية ملايين نسمة.
والنقل رغم ضحالته صار له تأثير بالغ في اللغة العربية، إذ إننا نرى سيادة بعض التراكيب اللغوية الإنجليزية مثلا على مثيلاتها من العربية. بمعنى آخر المترجم يخترع أو يستنبط مصطلحا كي يوائم اللغة الأجنبية دون مراعاة للبيئة والثقافة التي تحملها العربية في ثناياها.
أنظر مثلا تهافت الإعلام العربي على مصطلحات إنجليزية غير حميدة لتوصيف بعض العرب والمسلمين. مفردات مثل Islamists و Jihadists سكها العقل الغربي للانتقاص من العرب والمسلمين وجرى اشتقاق (ترجمة) مصطلحات عربية غير حميدة من قبل العرب والمسلمين لتوصيف أنفسهم سلبا.
اليوم يتداول العرب وإعلامهم مصطلحات مثل "إسلاميون وجهاديون" وهي ترجمات حرفية لما سكه الغرب للانتقاص منهم. ولكن ليس لدينا مثلا ما يقابلها بالعربية للانتقاص من الغربيين وثقافتهم ودينهم.
والقائمة تطول ولكن لنعد إلى عنوان مقالنا.
لقد طغى على العربية ما يمكن أن نطلق عليه "التحيز الجنسي" sexism لمساواة التميز على الذكورة أو الأنوثة باللغة العربية دون مراعاة لبيئة وثقافة اللغة العربية وعلمها وتاريخها ونحوها وصرفها.
تقليد الأجانب يتحول إلى "تقليعة" إن صار عملا ميكانيكيا غايته محاكاة الذين نراهم أكثر حضارة وتطورا وازدهارا دون إشغال العقل والاستناد إلى التراث.
لن يتقدم المرء خردلة صوب المساواة بين المرأة والرجل أو منح المرأة مكانتها التي تستحقها في المجتمع بإدخال تراكيب غريبة على اللغة العربية مثل "فسر/ فسري" للإشارة للمخاطب والمخاطبة في آن واحد لمساواة التميز بينهما تيمنا بما يحدث في بعض اللغات الأوروبية.
ولن تزيد مكانة المرأة خردلة إن استخدمنا كلمة "مدير" بدلا من "مديرة" و "وزير" بدلا من "وزيرة" و"رئيس" بدلا من "رئيسة" وعميد بدلا من "عميدة" إن كان من يتبوأ المنصب امرأة.
ولن نزيد من مكانة المرأة خردلة باستخدامنا لضمائر التأنيث والتذكير بصورة مزدوجة، "هي/ هو" مثلا، تقليدا للغة الإنجليزية.
ارحموا لغتكم الساحرة رحمكم الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي