رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الابتكار في بيئة التنمية .. ماذا علينا أن نفعل؟

إذا كان "الاكتشاف" يقدم معرفة جديدة من خلال الملاحظة والتجربة لمختلف معطيات الحياة؛ وإذا كان "الإبداع" يعطي معرفة جديدة عبر المعالجة الذهنية المنطقية لهذه المعطيات؛ فإن "الابتكار" يفعل دور المعرفة المتاحة في التنمية، ويقدم منتجات وخدمات تحمل "قيمة مادية"، تسهم في التنمية المنشودة. ولأن الابتكار يستند إلى المعرفة في تقديم مخرجاته، فهو غير منفصل عن الاكتشاف والإبداع، بل هو مكمل لهما. فالمعرفة المتجددة التي يقدمانها هي وسيلة لتجدد الابتكار، وتجدد القيمة التي يقدمها، ومزيد من الإسهام في التنمية، وتعزيز لاستدامتها.
الثلاثية المعرفية المهمة، "الاكتشاف، والإبداع، والابتكار"، معطيات خاصة "بالثروة البشرية"، يجب العمل على استخراجها منها واستغلال الفوائد التي تقدمها. ولا بد في هذا الإطار من توجيه كل من الاكتشاف والإبداع نحو موضوعات تقدم معرفة جديدة حية تفعّل الابتكار، وتعطي القيمة المادية المرجوة التي تستطيع الإسهام في التنمية. ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى أن الابتكار لا يأتي بالضرورة من معرفة جديدة تم التوصل إليها حديثا بالاكتشاف والإبداع، وإنما قد يأتي من معرفة سابقة لم تأخذ بعد حظها من التحول إلى قيمة مادية.
ونحن في طموحاتنا نحو تحقيق التنمية، وبناء البيئة اللازمة لتفعيلها واستدامتها من خلال معطيات الثروة البشرية، نحتاج إلى "تأهيل" هذه الثروة بالمعرفة الحية القابلة للتطبيق، وليس فقط بالمعارف النظرية، ونحتاج أيضا إلى تحفيز "التفكير" نحو الاستفادة من هذه المعرفة الحية واكتشاف وإبداع مزيد منها، وابتكار منتجات وخدمات تستند إليها، تستجيب لاحتياجات السوق محليا ودوليا، أو ربما تخاطب احتياجات كامنة تؤدي إلى توليد سوق جديدة لم تكن قائمة من قبل.
ولا شك أن مسؤولية بناء "بيئة مناسبة للتنمية"، تحفّز فيها الثروة البشرية على الاكتشاف والإبداع عموما، وعلى الابتكار بصورة خاصة، مسؤولية جماعية تقع على عاتق المجتمع بشتى قطاعاته وعلى مختلف مستوياته. لكن هذه المسؤولية تتركز بصورة خاصة في الجهات المسؤولة عن تأهيل الناشئة وتمكين الشباب، وعلى رأسها "مؤسسات التعليم" بشتى مراحله، والجهات الراعية للموهبة والبحث العلمي والعطاء المعرفي. وسنطرح فيما يلي ستة متطلبات رئيسة تتطلع إلى بناء بيئة التنمية المنشودة التي تستطيع تحفيز الثروة البشرية، وتقوم باستخراج إمكاناتها.
يهتم المتطلب الأول "باكتشاف تميز الإنسان" وتوجيهه نحو تميزه للاستفادة منه على أفضل وجه ممكن. وهناك دراسات واكتشافات في تميز الإنسان تقول إن كل إنسان يمكن أن يكون متميزا في مجال من مجالات الحياة. وفي هذا الموضوع يقول "هوارد جاردنر" صاحب نظرية "تعدد الذكاء" التالي: "لتميز البشر في الذكاء، كما في الحياة، مجالات متعددة وليس مجالا واحدا فقط". ويرى "كين روبنسون" مؤلف كتاب "الجوهر" أن لكل إنسان إمكانات خاصة تميزه عن الآخرين تمثل "جوهره الخاص"؛ ويقول روبنسون في هذا الموضوع: "كي نحصل على الأفضل من أنفسنا ومن بعضنا بعضا، نحتاج إلى تبني مفهوم أغنى لإمكانات الإنسان، علينا تبني مفهوم الجوهر الخاص والكامن في كل منا".
ويركز المتطلب الثاني على "تنمية التفكير وتفعيله" في الأمور المطروحة، لأنه وسيلة رئيسة لفهمها واستيعاب جوانبها المختلفة، ولأنه أيضا وسيلة لاكتشاف حقائق جديدة وإبداع أفكار جديدة، وابتكار منتجات وخدمات جديدة. ويرى خبير التفكير "إدوارد دو بونو" أن التفكير مهارة قابلة للتطوير، حيث يقول: "التفكير مهارة، كمهارة قيادة السيارة، يمكن تطويرها بالتدريب والتركيز".
ويقضي المتطلب الثالث بضرورة السماح "بمرونة التفكير" وإمكان اختبار الأفكار من خلال "التجربة والخطأ". ويمثل هذا المتطلب معضلة للطالب الذي يخشى أن يحاسب على الخطأ فيمتنع عن تقديم أي أفكار جديدة. ويقول المخترع الشهير "توماس أديسون" الذي اعتمد مبدأ التجربة والخطأ في اختراعه للمصباح الكهربائي: "لقد تعلمت عشرة آلاف طريقة خاطئة لصناعة المصباح الكهربائي". وقد استطاع من خلال ذلك إلى الوصول إلى الطريقة الصحيحة.
ونأتي إلى المتطلب الرابع الذي يعنى "بحماس الإنسان" وتحفيزه على العطاء والإنجاز، لأن في ذلك "طاقة مضافة" تأتي من التركيز على العمل والقيام بتنفيذه بفاعلية أكبر وكفاءة أعلى. وهذا ما يجب أن يكون عليه الأمر في نشاطات الاكتشاف والإبداع والابتكار. ويقول "رالف إميرسون" أحد كتاب القرن الـ 19 في هذا المجال: "عندما نصمم على عمل شيء ما بحماس، فإنه يبدو أكثر سهولة، ليس لأنه بات كذلك فعلا، بل لأن الحماس يكون قد زاد من إمكاناتنا".
ونصل إلى المتطلب الخامس الذي يهتم "بالشراكة المعرفية" التي تحدثنا عنها في مقال سابق. ففي تبادل المعرفة والعمل معا تلاقح للأفكار، وتنمية للاكتشاف والإبداع والابتكار. وقد عبر "جورج برنارد شو" عن ذلك بقوله: "إذا كانت لديك تفاحة ولدي أخرى وقمنا بتبادلهما، يبقى الوضع كما هو عليه، لكل منا تفاحة؛ ولكن إذا كانت لديك فكرة ولدي أخرى وقمنا بتبادلهما، يصبح لدى كل منا فكرتان"، وربما أكثر من ذلك مع تلاقح الأفكار وتوالدها.
وينظر المتطلب السادس إلى "العلاقة بين المبتكر والمستثمر"، سواء كأشخاص أو كمؤسسات، ويرى ضرورة تفعيل هذه العلاقة لتمكين المبتكرات من الوصول إلى السوق والإسهام في التنمية. وقد ذكر أحد الخبراء اليابانيين الذين زاروا المملكة وتحدثوا في مركز الملك فيصل أنهم يقيمون في اليابان "معارض للمبتكرات" يستطيع الجميع زيارتها. هذه المعارض هي ملتقى "للمبتكرين والمستثمرين"، حيث تلقى المبتكرات من خلالها النور وتستطيع توليد القيمة المنشودة، ليس فقط لمصلحة الطرفين، بل لمصلحة تنمية المجتمع وتعزيز إمكاناته أيضا.
ولعلنا نقول بناء على ما سبق إن بناء بيئة سليمة للتنمية يحتاج إلى تفعيل الابتكار؛ وإن لهذا التفعيل متطلبات تتضمن: "اكتشاف تميز الإنسان؛ وتفعيل مهارته في التفكير؛ والمرونة في إجراء التجارب بين الخطأ والصواب؛ وتعزيز الحماس للإنجاز والعطاء؛ وتفعيل الشراكة المعرفية مع الآخرين؛ وإضافة دعم التعاون بين المبتكرين والمستثمرين". والأمل أن نجد ذلك حقيقة على أرض الواقع بمشيئة الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي