«التعددية الذكية» .. لعالم يتجاوز الحدود المغلقة والحلول الأحادية
يتراجع الإيمان بالحكم الدولي والعولمة الاقتصادية في أنحاء الغرب، وكما أظهر فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، توجد هناك زيادة في رفض الناخبين للانفتاح، يحركهم شعور بالظلم وعدم المساواة إضافة إلى رفض المؤسسة السياسية التي قدمته. لكن بينما المظالم التي تحرك هذه الخيارات حقيقية – أن هناك الكثيرين الذين تضرروا من العولمة - من المرجح أن يتسبب العلاج في مزيد من الضرر أكثر من ذلك الذي يسببه المرض.
فبحسب خافيير سولانا، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية والأمن، لقد فاز ترمب من خلال وعده بالسعي إلى إيجاد حلول أحادية وتوخي المصلحة الذاتية، مثل تلك التي دعا إليها أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكان احتمال رفض اتفاقيات التجارة الحرة الجديدة مثل الشراكة عبر المحيط الهادي، والتفاوض مرة أخرى على الاتفاقيات القديمة مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “النافتا” هو دافع الناخبين، كما اعترض الناخبون على الكيانات متعددة الأطراف مثل منظمة التجارة الدولية التي تعد المنتدى الرئيسي للتفاوض وتنفيذ المعايير التجارية العالمية وإحدى المنظمات الدولية ذات الكيان شبه القضائي لتسوية النزاعات.
ويتجاهل كل هذا حقيقة حاسمة، هي أن التحول إلى الداخل في عالم اليوم ليس خيارا قابلا للحياة خاصة في الديمقراطيات الليبرالية الغربية، فنحن ببساطة مترابطون لدرجة أن المشكلات والتحديات والفرص التي نواجهها لا تعترف بحدود الدول.
ويحذر سولانا عضو مجلس الأجندة العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي من الجهود التي تبذل للعودة إلى زمن الدول القومية المستقلة، فلذلك ثمن باهظ وبالفعل فإن تراجع منظمة التجارة العالمية إضافة إلى زوال صفقات مثل الشراكة عبر المحيط الهادي والتجارة الحرة لأمريكا الشمالية “النافتا” ستغذي ظهور تكتلات تجارية منفصلة وتفتتح عهدا جديدا من تنافس القوى الكبرى وربما يكون الأكثر أهمية هو أن التراجع عن التجارة العالمية قد تنتج عنه خسارة عامة للرعاية والرفاهية.
والأنباء الطيبة هي أنه ليس كل شخص يعاني من مثل هذا التراجع في الرؤية، فقد وقع الاتحاد الأوروبي وكندا الاتفاق التجاري والاقتصادي الشامل ما يمنح بصيصا من الأمل بأنه يمكن إحراز تقدم فيما يتعلق بالتجارة التي تعزز الازدهار واتفاقيات الاستثمار.
ولم تكن المفاوضات سهلة، فقد واجه الاتفاق التجاري والاقتصادي الشامل مقاومة من جماعات قلقة من أن يضر مزيد من التجارة بسبل عيشهم. لكن المحادثات المطولة التي اشتملت على عملية مصادقة نهائية معقدة نجحت في النهاية في شهر أكتوبر.
ويعد الاتفاق التجاري والاقتصادي الشامل إيجابيا ليس فقط لأنه يربط بين اثنين من الاقتصاديات المتقدمة التي تعكس قيما ديمقراطية وفيها أنظمة رعاية قوية، لكن أيضا لأنه يقدم معايير بيئية وعملا وصحة نباتية عالية للتجارة، كما سيقدم دفعة اقتصادية كبيرة، ويحتمل أن يضيف نحو 12 مليار يورو “12.7 مليار دولار أمريكي” إلى الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، في حين يدعم تجارة البضائع والخدمات بقرابة 25 في المائة للجانبين. وهذا مهم وبشكل خاص في وقت يتفوق فيه نمو الناتج المحلي الإجمالي على نمو التجارة وهو تحول دراماتيكي عن الاتجاهات الحديثة.
وثمة ميزة أخرى للاتفاق التجاري والاقتصادي والشامل، يطرحها وزير الخارجية الأسبق سولانا، ألا وهي التقدم الذي تم إحرازه في تسوية النزاعات، الذي نتج عنه إنشاء محكمة دائمة يختار الاتحاد الأوروبي وكندا أعضاءها معا لتجنب تضارب المصالح. ولضمان الشفافية، فإن قرارات التحكيم سيتم إعلانها وسيكون من حق الأطراف الاستئناف.
ولا تهدد نتائج الانتخابات الأخيرة التجارة فقط بل تهدد البيئة والمناخ العالميين أيضا. والولايات المتحدة – المسؤولة عن 16 في المائة من انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري – ضرورية لأي جهد يبذل لمكافحة التغير المناخي خاصة لأنها تقدم مثالا للدول الأخرى ذات الانبعاثات العالية. وحتى الآن، تعهد ترمب مرارا وتكرارا خلال حملته الانتخابية بـ “إلغاء” اتفاقية التغير المناخي العالمي التاريخية التي تم التوصل إليها في باريس في ديسمبر الماضي.
وإذا ما أوفى ترمب بوعده فستكون العواقب وخيمة، والأنباء المبشرة هنا هي أن باقي الموقعين على اتفاق باريس أعربوا صراحة في مؤتمر المناخ الذي عقد هذا العام في مراكش في المملكة المغربية عن تصميمهم على تنفيذ الالتزامات التي قدموها.
كما توجد أنباء مبشرة أخرى هي توصل ممثلي الحكومات والصناعة والمجتمع المدني إلى اتفاق الشهر الماضي للحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن صناعة الطيران المدني، وهو أول اتفاق لخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون يتم التوصل إليه في قطاع عالمي. ومع أخذ هذا في الاعتبار، وفي سيناريوهات الطلب العالي فإن الصناعة سينبعث عنها بحلول 2050 غاز ثاني أكسيد الكربون مماثل لذلك المنبعث من روسيا والهند حاليا وهذا تطور مهم وضخم.
ومرة أخرى، يتمسك الاتحاد الأوروبي بموقفه في التفكير المستقبلي ولعب دور محوري - مع دوله الأعضاء – في التوسط للوصول إلى اتفاق يطلب من شركات الطيران التعويض عن نمو انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الصادرة عنها بدءا من 2020 عن طريق شراء “وحدات انبعاث” تمنحها المشاريع التي تخفض الانبعاثات في القطاعات الأخرى مثل قطاعات الطاقة المتجددة.
وفي منتصف العقد الأول من الألفية أدرك الاتحاد الأوروبي – الذي ينفذ بالفعل خطة خاصة به لتجارة الكربون - أنه على الرغم من الالتزامات التي يشتمل عليها بروتوكول كيوتو فإن العالم قد فشل في خفض الانبعاثات الصناعية وبدأ الاتحاد الأوروبي العمل على إيجاد حل في 2008. وبحلول 2012، أقنع المنظمة الدولية للطيران المدني بالالتزام بالوصول إلى اتفاق عالمي بنهاية 2016 وتنفيذ هذا الالتزام يعد خطوة رئيسية على طريق التعاون المناخي.
لقد تجاوز العالم، يختم خافيير سولانا، نقطة الحدود المغلقة والحلول الأحادية فقد أصبحنا بالفعل في قلب العولمة، ونحتاج حاليا إلى لوائح عالمية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والعالمي إضافة إلى السلام والأمن العالميين، ولم يبرهن الاتحاد الأوروبي – على الرغم من التحديات العديدة التي يمر بها - على قيمته كحجر أساس في النظام العالمي فحسب بل عكس كذلك القيمة الأشمل للرؤية والقيادة العالميتين، وذلك من خلال الدبلوماسية والتعددية الذكية. والآن وأكثر من أي وقت مضى، فقد أصبح درسا لا يمكن تجاهله.