وصول ترمب .. العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات

وصول ترمب .. العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات
يستعيد ترمب سيرة الرجل الأبيض الأمريكي الذي ينجح في قهر القوى كافة وتجاوز كل العقبات.
وصول ترمب .. العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات
فشلت الطاحونة الإعلامية الأمريكية بعدتها وعتادها في وقف زحف رجل أعمال حديث العهد بالسياسية.

تقف أمريكا منقسمة على نفسها، بعد معرفتها اسم وسيرة الرئيس الخامس والأربعين الذي سوف يتولى إدارة البلاد طيلة السنوات الأربعة القادمة. دونالد ترمب الملياردير الأمريكي المستثمر في القطاع العقاري الذي استطاع بشعبويته وخطابه الجديد في المشهد السياسي أن يسقط الراسخين في دهاليز السياسية في الساحة الأمريكية.

أوجد الرجل مفاجآة من العيار الثقيل، جعلت من هذا النزال الانتخابي واحدا من أغرب الدورات في تاريخ الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. لقد تمكن ترمب من مواجهة الجميع؛ بدءا بالآلة الإعلامية الجبارة، مرورا بالمؤسسة الحزبية للجمهوريين والديمقراطيين معا، وصولا إلى خلايا التفكير ومراكز الأبحاث ومؤسسات سبر الآراء، في مشهد كاريكاتوري أشبه ما يكون فيه بذاك الجندي المتوجه إلى المعركة بلا سلاح. بيد أنه يطل علينا في النهاية على شاكلة بطل أفلام هوليود؛ مستعيدا سيرة الرجل الأبيض الأمريكي الذي ينجح في قهر جميع القوى، وتجاوز كل العقبات محققا نصره المبين.

قرابة الشهر تنقضي عن هذه المعركة الانتخابية التي حظيت باهتمام ومتابعة من مشارق الأرض ومغاربها، إذ بقيت أنظار العالم مشدودة تلك الليلة إلى واشنطن، لمعرفة خليفة باراك أوباما في البيت الأبيض. وربما الاحتفال - من قبل البعض - بانتخاب أول امرأة في منصب رئيسة الولايات المتحدة، حسب ما ذهبت إليه كل التوقعات واستطلاعات الرأي؛ منذ بداية الحملة الانتخابية وحتى قبلها، بعدما تأكد أن دونالد ترمب هو مرشح الحزب الجمهوري.

يتبلور تدريجيا شبه إجماع بين المحللين والخبراء على أن فترة حكم ترمب سوف تكون حبلى بالمفاجآت، ونوعية بكل المقاييس؛ وما الطريقة التي وصل بها إلى سدة الحكم سوى البداية. بعيدا عن التكهنات وقراءة الطالع حول مستقبل السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة في السنوات القادمة، نستعيد بعض التفاصيل المهمة لواقعة الثلاثاء الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) بغية فهم تحولات لم تؤخذ بعين الاعتبار، لكنها أوجدت المفاجآة الكبرى في النزال الانتخابي الأخير في بلاد العم سام.
#2#
أولا: زادت نتائج هذه الانتخابات من مصداقية الشكوك التي تحول حول صدقية مؤسسات سبر الآراء وتطبيقاتها، فهذه واحدة من المحطات الكبرى التي تجانب فيها استطلاعات الرأي الحقيقة؛ وتأتي نتائجها ضد كل التوقعات. ما يعني أن ضرورة مراجعة تقنيات اشتغال هذه المؤسسات أضحى ضرورة ملحة، خاصة في دول تأخذ بعين الاعتبار هذه النتائج عند رسم الخطط ووضع البرامج.

ففي هذه الواقعة مثلا تجاوز تقدير الفوز، والاستعداد لما بعد الانتخابات، الديمقراطيين الذين بالغوا في الأمر كثيرا إلى شريحة واسعة من الجمهوريين - استنادا إلى استطلاعات الرأي - التي شرعت عمليا داخل الحزب في الاستعداد لما بعد هزيمة دونالد ترمب.

ثانيا: تكشف النتائج المسجلة عن تميز هذا النزال الانتخابي بالطابع العرقي؛ فالظاهر أن سنة 2017 كانت سنة العودة القوية للعرق الأبيض، الممزوجة بالغضب من التغيرات المهمة التي لحقت الشأن الداخلي الأمريكي. فهذه الانتخابات واحدة من أقوى المعارك الانتخابية؛ منذ رونالد ريجان القائمة على أساس عرقي، حيث سجلت محطتا 2008 و2012 عند انتخاب أوباما تراجعا مهما في القوة التصويتية للبيض.

غير أن هذه الفئة قررت العودة، وبقوة هذه المرة، بعد أن استاءت الأغلبية الساحقة فيها، ممن تصنف في قائمة المحافظين من التغيير الذي لحق المنظومة القيمية للبلد في الفترة الأخيرة (زواج المثلين، الإجهاض، كثرة الضرائب،..)، وذلك مرحليا فقط لأن التقديرات الإحصائية تفيد بأن عام 2044 لن يستطيع أي مكون عرقي تشكيل الأغلبية التصويتية.

ثالثا: فشل الطاحونة الإعلامية في أمريكا التي لم تقدر بعدتها وعتادها إضافة إلى تاريخها المهني العريق من وقف زحف رجل أعمال حديث العهد بالسياسية؛ لا تتردد في وصفه بـ"المهرج"، من دخول البيت الأبيض. فالمعركة التي أقيمت ضد ترمب كانت شرسة بكل المقاييس، إذ ترصد هذه الآلية زلات وهفوات الرجل تباعا طيلة الحملة الانتخابية جاعلة من حداثة عهده بالحقل السياسي مواد دسمة للسخرية والتنكيت والاستهزاء.

رابعا: أزمة المؤسسة الحزبية في الولايات المتحدة عند الجمهوريين والديمقراطيين على حدة سواء، حتى وإن كانت أعراض أزمة الهوية بادية أولا في الحزب الجمهوري مع صعود ترمب أحد الوجوه الشعبوية للتنافس الرئاسي في صفوفه. لكن سرعان ما انتهى الأمر إلى أزمة مماثلة في صفوف الحزب الديمقراطي بعد خسارته لولايات وشرائح اجتماعية كانت تحسب له تاريخيا.

فعلى سبيل المثال أفقدت الثقة الزائدة بالنفس الديمقراطيين ولايات بنسلفانيا وميشيجان وويسكونسن التي تحسب لهم تاريخيا. كما أفقدتهم ثماني سنوات من الإدارة والتسيير القدرة على فرز التمايز داخل قواعدهم، فقد بدت هيلاري كلينتون مرشحة يمينية لقاعدة حزبية تميل أكثر نحو اليسار، أي أنها تمثل المؤسسة التقليدية الحاكمة، في حين اعتبر العديد من المراقبين هذه الانتخابات بمثابة ثورة على المؤسسة في النظام الأمريكي بكل أشكالها.

خامسا: مأزق النظام الديمقراطي المعاصر الذي يبقى أبعد ما يكون عن النظام المثالي المحصن من العيوب، فلا شك أن ترمب وأنصاره دخلوا من ثقوب عيوب الديمقراطية إلى قلب القرار الأمريكي، فإذا كانت الديمقراطية هي أفضل نظام أنتجه البشر لإدارة السلطة والحكم، فهو يبقى غير محصن ضد الشعبوية والتطرف والعنصرية، وما إلى ذلك من الآفات التي تستطيع، في أوقات الأزمات، أن تخترقه على شاكلة اختراق الأجهزة الإلكترونية الحديثة في لمح البصر.

أخيرا نقول إن رجل البيت الأبيض الجديد استطاع أن يستثمر نقمة الأمريكيين وامتعاضهم من تردي الأوضاع في صياغة خطابه البسيط في رسالة مفادها: "أنا أستطيع التغيير. أنا أستطيع أن أقلب الطاولة على كل شيء في أمريكا، على المؤسسات، وعلى الاقتصاد، وعلى الخطاب، وعلى التواصل، وعلى كل القواعد والتقاليد. هيا أيها الرجل الأبيض، أنا فرصتك لتنتقم. أعطني صوتك، والباقي أنا سأتكفل به". الأمر الذي جعله موضعا للسخرية والاستهزاء أحيانا لكن على ما يبدو أن دونالد ترمب كان مقتنعا غاية الاقتناع بالقول المأثور "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات".

الأكثر قراءة