الاستفادة من الابتكار العالمي

الاستفادة من الابتكار العالمي

يعد الابتكار ضرورة لتحقيق تنمية مستدامة، وينبغي للدول في إطار سعيها لمواجهة سيناريوهات تراجع النمو، الحفاظ على استثماراتها في مجال البحوث والتطوير والتعاون على نطاق دولي لحماية زخم الابتكار.
ولد مشروع الإنسان الدماغ "إتش بي بي" في 2013، وهو بحث علمي مدته عشر سنوات، يهدف إلى تعزيز فهم علم الأعصاب، والحوسبة المستوحاة من الدماغ وطب الدماغ. قدمت مبادرة المفوضية الأوروبية التي ولدت بفضل جهود البروفيسور هنري ماركرام، في جامعة الفنون التطبيقية الفيدرالية في لوزان في سويسرا، للمجتمع العلمي الركائز الأساسية للتعاون وتحقيق إنجازات جديدة في دراسة علم الأعصاب، ووصل مجموع التمويل الذي حصل عليه المشروع إلى مليار يورو.
لا يعتبر هذا التعاون بالأمر الغريب على أوروبا، ففي عام 1985 تم إنشاء برنامج "يوريكا" الشبكة الحكومية الدولية الممولة من القطاع العام بمشاركة أكثر من 40 دولة، بهدف تعزيز القدرة التنافسية الأوروبية من خلال "تعزيز الابتكار عبر الحدود".
تعتبر السياسات الحكومية والإنفاق الضخم في مجال البحوث والتطوير والتعاون، سمات مميزة لتجمعات مثل "مشروع الإنسان الدماغ" و"يوريكا"، حيث تجعل مثل هذه العوامل الدول أكثر ابتكارا. وتتصدر سويسرا مجددا مؤشر الابتكار العالمي لهذا العام "جي آي آي"، متفوقة على سبع دول أوروبية أخرى في قائمة الدول العشر الأولى، وحلت سنغافورة في المرتبة السادسة، والولايات المتحدة في المرتبة الرابعة. وحصلت سويسرا ونظيراتها على أعلى الدرجات في جميع الركائز الرئيسة للمؤشر، مثل قوة المؤسسات والبنية التحتية ورأس المال البشري والبحوث ومدى تطور السوق.
وجد مؤشر الابتكار العالمي، وهو حصيلة التعاون بين كلية إنسياد وجامعة كورنيل والمنظمة العالمية للملكية الفكرية "الويبو"، أن الاستثمارات في مجال البحوث والتطوير والابتكار هي الركيزة الأساسية لتحقيق النمو الاقتصادي؛ كمساعدة البلدان النامية على إعادة هيكلة نفسها في أوقات التراجع الاقتصادي، وتلبية الدول الناشئة احتياجات مجتمعاتها المتزايدة.
في الوقت الذي يبدو فيه التعاون الدولي في مجال العلم والابتكار أكبر من أي وقت مضى، تميل الدول أحيانا إلى تصنيف بعضها بعضا على أساس تنافسي عوضا عن تعاوني. وبإمكان الدول التغلب على ذلك من خلال التعامل مع الإبداع باعتباره جهدا عالميا إيجابيا عوضا عن لعبة محصلتها صفر.
وجدنا أيضا أن الاستثمار المستدام أمر بالغ الأهمية، وقد يكون من المغري تقليص الاستثمار عند انخفاض النمو أو في حالة عدم الاستقرار الاقتصادي، في الوقت الذي يقوم فيه اتباع نهج متقطع بالقضاء على التقدم المحرز في السنوات السابقة.
لا تزال الصين تنفق حصة صغيرة من ميزانية أبحاثها على البحوث والتطوير مقارنة بالدول الكبرى، ولكن تقترب نفقاتها من البلدان الغنية، وذلك يجعل دخولها رمزيا ضمن الدول الـ 25 الأولى في مؤشر الابتكار العالمي هذا العام، وأول دولة من ذوات الدخل المتوسط تقوم بذلك، حيث تضم تلك القائمة عادة البلدان ذات الدخل المرتفع. إن إنجاز الصين لافت من حيث جودة الابتكار والنتائج والكفاءة، وقد ساعدت مثل هذه التحسينات بلدانا أخرى من ذوات الدخل المتوسط، كبلغاريا التي احتلت المرتبة (38)، وكوستاريكا (45) ورومانيا (48). ومن بين الدول ذات الدخل المنخفض جاءت مولدوفا في المرتبة (46)، وأوكرانيا (56) وفيتنام (59)، التي تفوقت على قريناتها من مستوى الدخل نفسه بنسبة 10 في المائة على الأقل. وهكذا، يمكن النظر إلى التقدم الذي أحرزته الصين باعتباره مؤشرا للتطورات المستقبلية، وجسرا لسد الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، وسمة واضحة من سمات المؤشر العالمي للابتكار.
ستلعب الحكومات دورا حاسما في هذا المسعى، ليس فقط من خلال توفير بيئة مواتية للبحث والتطوير في الابتكار، ولكن عن طريق تسهيل عملية التعاون الدولي، ودعم إطار الحوكمة للابتكار العالمي. ولا بد أن يكون هذا الإطار مرنا بما فيه الكفاية لاستيعاب الطبيعة الديناميكية للابتكار وتسهيل حركة العلماء، والتمويل المشترك للمشاريع.
يعتبر قرار بريطانيا أخيرا بخروجها من الاتحاد الأوروبي مثالا على ذلك. وقد ادعى بعض المؤيدين لخروجها وغيرهم من النشطاء المناهضين للاتحاد الأوروبي، أن الاقتصادات الصغيرة والذكية أكثر انفتاحا وأكثر قدرة على مواجهة الأزمات، وبالتالي تتطلب تعاونا دوليا أقل. بالفعل، تظهر أبحاث مؤشر الابتكار العالمي أن الدول المنفتحة تجاريا مثل سويسرا وسنغافورة هي الرائدة عالميا في مجال الابتكار، ولكن نظرية أنها قامت بذلك قبل انضمامها لتكون جزءا من تجمع كبير مثل الاتحاد الأوروبي تتجاهل الصورة الأكبر. فكلاهما سوق متكاملة، الأسواق العالمية التي تتعاون بشكل كبير مع الاقتصادات المجاورة الأكبر، والأسواق العالمية فعليا. قد لا تكون سويسرا جزءا من الاتحاد الأوروبي، لكنها تلعب دورا مركزيا في مشاريع مثل مشروع الدماغ البشري مع شركائها الأوروبيين، وخدمات البنية التحتية في مختلف أنحاء أوروبا مثل نفق جوتهارد الجديد.
تأتي كل من الكمية والنوعية في الابتكار على درجة الأهمية نفسها. تتبع مؤشر الابتكار العالمي منذ عام 2013 جودة الابتكار من خلال النظر في مستوى الجامعات المحلية، وتدويل الاختراعات والاستشهادات البحثية. وفي هذا الصدد، لم تأت الصين في صدارة المجموعة ذات الدخل المتوسط فقط، فقد سبقت دولا عدة من البلدان ذات الدخل المرتفع من حيث جودة جامعاتها والاستشهادات البحثية. تساعد عدة دول من ذات الدخل المتوسط التي تأتي في أعلى رأس القائمة، على سد الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، بما في ذلك جنوب إفريقيا التي احتلت المركز (54)، والهند التي جاءت في المرتبة (66)، والبرازيل في المرتبة (69)، التي تمتلك جميعها نقاطا تخولها من منافسة الصين من حيث الجامعات والاستشهادات.
ينبغي لصناع القرار الأخذ بعين الاعتبار أهمية السياسات، ودورها الرئيس في تطوير عقلية الابتكار في الوقت الذي تقوم فيه بتخفيف مشاعر التعصب لقومية معينة. ويبدأ ذلك بالتعليم، حيث إن إيجاد حافز نحو العلم والتشجيع على المخاطرة، يؤجج الفضولية عند الطلاب، الأمر الذي سيحملونه معهم في حياتهم العملية. ويعتبر ذلك أمرا حاسما، حيث يكون الابتكار في ممارسات الإدارة وعالم الأعمال أو النماذج التنظيمية بعيدا عن الإبداع التقني. ويعتبر الابتكار العالمي ضرورة للدول لتجنب النمو المنخفض، ولكن لن يتحقق ذلك دون التعاون ووجود سياسة جيدة.

الأكثر قراءة