«تضارب مصالح» يعمق الهوة المناخية بين شمال الأرض وجنوبها
اختتمت قمة المناخ في دورتها الـ 22 في مدينة مراكش المغربية أشغالها على غرار باقي الجولات ببريق أمل يراود أغلبية المشاركين؛ حتى لا نقول الجميع، في التطلع إلى غد أفضل لمستقبل هذا العالم الذي بلغت بعض المناطق فيه نقطة اللاعودة في ما يتعلق بالمخاطر والأضرار المحدقة بها.
قمة انتظر عديد من المتابعين والمهتمين ونشطاء البيئة أن تكون منعطفا تاريخيا في مسار إنقاذ الكوكب الأزرق، بعدما تمكن دورة السنة الماضية في باريس من تدويل المسألة المناخية حتى عُدّت همّا مشتركا للإنسانية جمعاء، بعدما انعقد شبه إجماع على قضايا الحق في التنمية، والحق في الصحة، وحقوق الشعوب الأصلية، ومسألة الإنصاف ما بين الأجيال... وما إلى ذلك من المواقف التي تتطلب من الجميع اتخاذ خطوات مشتركة لمجابهة التغيرات المناخية، وعليه كان ملتقى مراكش فرصة لتأكيد صدق النوايا وترجمت مواقف باريس إلى أفعال وإجراءات عملية.
#2#
لا جدال في أن قضايا البيئية الراهنة أثبتت بوضوح التعقد والترابط الكبير الذي يميز العالم المعاصر؛ فقد انتقلت المسألة البيئية من الهامش إلى مركز المناقشات على الصعيد العالمي، وتطورت مع مرور الوقت من مصدر إزعاج بسيط وثانوي إلى واحد من أكبر الأخطار الجدية التي تحدق بمستقبل الإنسانية كلها.
لذا ارتفعت أصوات عديدة على المسرح الدولي؛ ولا سيما تنظيمات المجتمع المدني، وتيارات "الخضر" بمعية بعض المفكرين ممن يصنفون في خانة رواد الفلسفة البيئية.
وازدادت معها حدة العناية والاهتمام بمتابعة آخر تطورات الملف البيئي على الصعيد العالمي، بما يحمله من مفارقات لا نجد لها نظيرا في باقي القضايا الدولية والشؤون الإنسانية.
لعل إحدى المفارقات التي تظهر لكل متتبع راصد لأطوار المفاوضات المناخية هي تلك الخلفية الرأسمالية الكامنة التي سادت ميزت هذا الموضوع، فآليات السوق وقواعد العرض والطلب حاضرة في تدبير القضايا البيئية، فصرنا نتحدث عن مفاهيم لها حمولة اقتصادية صرفية من قبيل "الدين الإيكولوجي"، و"ضريبة الكربون"... بينما الحقيقة الساطعة؛ المتغاضى عنها، هي تتجاوز التغيرات المناخية لهذه الآليات؛ لأنها وببساطة لا تعترف بالحدود الوطنية الضيقة برية كانت أو بحرية أو جوية.
إلى جانبها نجد مفارقة أخرى أكبر وقعا، تكمن في تناسل النصوص القانونية والبروتوكولات والمراسيم والمواثيق... وهلم جرا من المسميات وهو ما أضحى إرثا مهما في أرشيف القانون الدولي البيئي دون أن يؤثر ذلك فعليا على أرض الواقع؛ ولا أدّل على هذا من المستويات القياسية تاريخيا؛ في بعض الأماكن صيف هذا العام، في درجات الحرارة جراء التلوث. وذلك مرده لكون الالتزام وحده غير كاف وبلا جدوى في ظل عدم وجود رقابة دولية بخصوص مسألة تنفيذ هذه النصوص من عدمه.
يضاف إلى ما سبق ذاك الانقلاب الذي يحدثه الاصطفاف على الساحة الدولية في ما يتعلق بالمفاوضات المناخية، فالظاهر أن محاور واندماجات أو بالأحرى أحلاف مصلحية آنية تتشكل بعيدا عن أي اعتبار أيديولوجي أو مرجعي. فما أكثر الفوارق والاختلافات بين الصين والولايات المتحدة ، لكن التاريخ يذكر أنهما شكلا معا حلفا مؤقتا حال دون التوصل إلى اتفاق ملزم في مؤتمر كوبنهاجن 2009.
في الجانب الآخر، يصعب الحديث في المفاوضات المناخية عن انتماء خالص لهذا الحلف أو ذاك، إذ يصعب حصر انتماء الدول في نطاق حلف واحد. فدولة مثل الكونغو على سبيل المثال تتموقع في أكثر من انتماء فهي ضمن محور الدول الإفريقية (54 دولة)، وتنتمي إلى الدول الأقل نموا (48 دولة)، وهي كذلك عضو في تحالف دول الغابات الاستوائية (40 دولة)، ولها مقعد في مجموعة 77+ الصين الذي يضم دولا كثيرة غير منسجمة في مواقفها.
لا مفر إذن من خطوات عملية بغية تعبيد الطريق أمام حل يضمن حقوق الأجيال القادمة من ردم الهوة المناخية بين الشمال والجنوب، ولا سيما في سياق تناقض مصالح المحاور البيئية. لكن حصاد دورة مراكش لا يكشف عن الكثير بهذا الخصوص فأغلب الدول الصناعية اكتفت بوعود فضفاضة لتمويل الانتقالات الطاقية في الدول المناخية.
في وقت تمسكت فيه دول الجنوب بطلب تعويضات من الدول الصناعية الكبرى في الشمال بسبب الخسائر والأضرار المتعلقة بالتغيرات المناخية. وفي ذلك إشارة قوية إلى المسؤولية التاريخية للغرب المصنع منذ الثورة الصناعية الأولى.
وبينهما دول مثل دول البريكس التي تضم البرازيل، الهند، روسيا، الصين، جنوب إفريقيا – محور تكون سنة 2009- التي اختارت التفاوض من موقع المستند إلى مبدأ التمايز، الذي يفيد بضرورة اعتراف الدول ذات المسؤولية التاريخية بما أحدثت من تأثير في البيئة، مرفقا بتوليها مبادرة تدارك الهدر البيئي، حتى تحذو باقي الدول حذوها شريطة أن يكون الأمر على مبدأ التمايز بين الدول المتقدمة والدول النامية.
فأغلب هذه البلدان تصر على حقها في التنمية الاقتصادية أولا قبل أي شيء آخر، وحجتها في ذلك أن أثرها في اختلال التوازن البيئي لا يرقى إلى ربع ما بلغته الدول المتقدمة في مسار تطورها. فالهند مثلا تقول "إن أولوية الهند هي التنمية"؛ بينما لا تفكر البرازيل في التوقف عن عملية إزالة الغابات؛ إذ في غضون عشرين سنة سوف تفقد البرازيل 10 في المائة من غاباتها، وذلك في سبيل إقلاعها الاقتصادي. كما أن دولا أخرى يتعلق مصيرها الاقتصادي ببعض المواد، ذات المساهمة الكبيرة في تلوث البيئة، مثلما عليه الحال مع بولونيا كواحدة من البلدان الأكثر إنتاجا واستهلاكا للفحم (تعتمد على الفحم بنحو 90 في المائة) التي تسعى دائما إلى عرقلة المفاوضات المناخية.
محطة تلو الأخرى تتأكد الإنسانية أن المعركة الضارية التي تخوضها في سبيل إنقاذ هذا الكوكب لا محيد عنها؛ إن هي أرادت تسليم هذه الأمانة سليمة إلى الأجيال القادمة. كما تتأكد بالمثل من أن حساب رجال الاقتصاد لا يتعدى اللحظة الراهنة، ومواقف رجال السياسة لا تتجاوز حد أنوفهم.