الرأسمالية الغربية تترنح .. ونظرية السوق على المحك
يعتبر اقتصاد السوق إحدى المدارس الاقتصادية التي خرجت من تحت عباءة الرأسمالية الغربية، ويعتبر الاقتصادي الأمريكي فريدمان أحد أبرز اللاعبين الأساسيين في هذه المدرسة.
ولقد بنيت توجهات هذه المدرسة على فرضية أن سلطة الدولة قد ضعفت نتيجة انتقال مركز ثقل القرار إلى الأسواق العالمية الواسعة التي تتطلب وجود شركات عملاقة تكون مصدر التوازن الجديد في العالم، وعليه يصبح الاقتصاد -وليست السياسة- هو صانع الأحداث في العالم على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والإنسانية، وهو ما عبر عنه -أوائل التسعينيات- فرانسيس فوكوياما في كتابه عن نهاية التاريخ، ومنذ ذلك الحين أغرق فوكوياما العالم بكم هائل من الدراسات والمقالات والمؤتمرات والندوات التي تؤكد وحدانية السوق الذي تحول فيما بعد إلى ما يشبه العقيدة التي لا تقبل الشك أو النقاش.
ولقد استخدمت هذه الشركات عدة آليات لإحكام سيطرتها الاقتصادية والسياسية ومنها التكنولوجية بحجمها الكبير ثم حقوق الملكية كشكل قانوني لحماية الاحتكار بدعم من منظمة التجارة العالمية التي استخدمت استخداما سيئا في إطار دعم نظرية السوق.
وفي ضوء ذلك أصبحت نظرية السوق شعارا تتغنى به كل الدول في وسائل إعلامها وتعلقه وساما على صدرها، كما كانت تعلق على صدرها شعار الديمقراطية الذي لا يزال شعارا محنطا منذ عقود طويلة وحتى الآن.
والحقيقة أن الحكومة السعودية واجهت هذه الموجة الغريبة الجديدة بكثير من الحكمة، وأصدرت أمرا يقضي بتأسيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وقام المجلس بوضع سياسات اقتصادية متوازنة لإصلاح الاقتصاد الوطني حيث تتضمن الاستفادة من نظرية السوق بالقدر الذي يحقق الفائدة للاقتصاد الوطني دون الانجراف وراء الفرقعات الإعلامية التي أنشأت شبكة من الشركات العملاقة الكبرى متعددة الجنسيات التي تصعب متابعتها ومراقبتها.
أي أن الحكومة السعودية الواعية تنبهت إلى كل هذه المهاترات وأعطت للقطاع الخاص دورا مهما في تنفيذ برامج التنمية المستدامة واعتبرته شريكا استراتيجيا في مشاريع التنمية الوطنية الشاملة وأقرت خصخصة بعض وليس كل المؤسسات، وظلت الحكومة متمسكة بدورها المشارك في الملكية والمراقب والحارس الأمين للاقتصاد الوطني، وإذا نظرنا إلى الشركات السعودية العملاقة نجد أن الحكومة شريك قوي في ملكية هذه الشركات هكذا بالنسبة لـ"سابك" وشركة الاتصالات وشركة الكهرباء والمصارف، وكذلك مشاريع بيع الأندية الرياضية العملاقة التي تجري هذه الأيام عمليات خصخصتها، وما إلى ذلك من الشركات الكبرى، وهذا النهج -نهج امتلاك الحكومة لبعض أسهم الشركات والمصارف العملاقة- هو العلاج الذي تتبعه الدول الكبرى للخروج من الكارثة. والآن وبعد الورطة أو لنقل: الكوارث التي حلت بالرأسمالية الغربية، فإن الرأسمالية السعودية، تبدو -بفضل سياسة حكومتها الرشيدة- قد نجت من شظايا الكارثة وأن الأضرار التي ستلحقها ستكون أضرارا يمكن استيعابها بفضل السياسة الاقتصادية المتوازنة التي انتهجتها الحكومة السعودية الرشيدة.
إن "رؤية المملكة 2030" هي الوسيلة المثلى للخروج من كل الأزمات الاقتصادية المحتملة، ولقد جاءت "الرؤية" في الوقت المناسب كي تقوم بدور المنقذ للاقتصاد الوطني، ولعل أبرز البرامج التي تحملها "الرؤية" هي تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على البترول كعنصر أساس وحيد، كما أن "الرؤية" تدفع كل قوى الاقتصاد الوطني إلى التوسع في استخدام تكنولوجيا المعلومات والاعتماد على التعليم ونشره بين الناس بجودة عالية.
ويجب أن نسلم بأن عصر العولمة بات عصرا مشكوكا فيه لأن الأزمة التي ضربت الاقتصاد الأمريكي في عام 2008 هي نتيجة سياسات أمريكية خاطئة، ولا ذنب لجميع دول العالم فيما تورطت فيه الإدارة الأمريكية من سياسات خرقاء كان من نتائجها أن وصل حال الاقتصاد الدولي إلى ما وصل إليه من تصدع لكبريات المصارف والشركات. ولذلك في المحصلة المؤسفة أن أمريكا ارتكبت الأخطاء، والعالم هو الذي يدفع الثمن معها.
ولا شك أن المطلوب من القطاع الخاص أو الرأسمالية السعودية الوقوف جنبا إلى جنب مع حكومتها الرشيدة التي جعلت الرأسمالية الوطنية شريكا استراتيجيا في التنمية، ووضعت سياسات متوازنة كانت بمثابة الدرع الواقي الذي يمنع تورط القطاع السعودي الخاص في أزمة لا تحمد عقباها.
ومعا –أي: القطاعان الحكومي والخاص- يمثلان عقدا متضامنا لمواجهة هذه الأزمة، وأي أزمة سابقة أو لاحقة.
إن أمام الرأسمالية السعودية كثيرًا مما يجب أن تفعله كي تساعد على دعم الاقتصاد الوطني، ولعل أهم ما يجب أن تفعله هو المضي قدما في تنفيذ السياسة الاقتصادية التي تضعها الحكومة لمواجهة أزمة مالية عالمية عاصفة.