اكتشاف البترول .. رؤية ملك
تزهو المنطقة الشرقية بزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- التي تتضمن افتتاح عدد من المشاريع الحيوية والمرافق الاقتصادية. وبترحيبنا الحار بهذه المناسبة، نقول: رحم الله موحد ومؤسس هذه المملكة الفتية، جمع شملها وألف بتوفيق من الله، بين قلوب ساكنيها على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم وخلفياتهم حتى أصبحوا على قلب رجل واحد. اللهم أدم علينا نعمة الإيمان والأمان. فقد كان -تغمده الله برحمته- قائدا حكيما ورجلا ذا رؤية لا تحدها أبعاد الأفق الواسع. كان يدرك أن أرضنا المباركة ليست ذات زرع ولا برنا ذا ضرْع، بل هي صحراء ظاهرها أجدب وباطنها لا يعلم ما فيه إلا الله. ولكن الملك عبدالعزيز، بما جُبل عليه من الذكاء الفطري أدرك مبكرا أنه لابد من البحث عن مصادر -أي نوع منها- تكون معينا على العيش والبقاء فوق أرض الصحراء. وأي فكر هذا الذي قاده، وهو ابن البادية، إلى تحري وجود ثروة هائلة مدفونة منذ مئات الملايين من السنين تحت هذه الأرض الطيبة؟ وبسبب الحاجة الملحة وحرصه على ضمان مستقبل واعد لشعبه وأمته، لم يأنف من دعوة أناس غرباء عن المجتمع وعن البيئة من أجل البحث عن المادة السحرية التي أطلقوا عليها "البترول". لعلها تكون موجودة تحت أرضنا. وعقد مع الجانب الأجنبي اتفاقية متوازنة بمقاييس ذلك الوقت، حصلوا بموجبها على حق الاستكشاف والاستثمار في حال وجود البترول بكميات تجارية. كان ذلك عام 1933 ميلاديا.
بدأ البحث في الصحراء، بعد أن تكامل وصول المعدات الأولية. وقد كان للجيلوجيين الذين كان بعضهم يعمل في البحرين المجاور، رأي خاص، كانوا يشاهدون جبال الظهران عن بعد ويخمنون أنها ترسو فوق قبة من مكامن البترول. وفعلا صدق حدسهم، ولكن بعد جهد واستنباط علمي فريد. انتقلوا إلى الظهران وبدأوا الحفر عام 1935، بعد أن اكتمل وصول معدات الحفر. حفروا البئر الأولى. وصادفوا آثارا للبترول ولكن ليست بكميات تجارية. فانتقلوا إلى البئر الثانية ووجدوا النتيجة نفسها. ومع ذلك فقد كانوا عازمين على مواصلة المشوار حتى يتأكدوا من النتائج النهائية. وعيون جلالة الملك العبقري -رحمه الله- ترقبهم من بعيد. انتقلوا إلى موقع البئر الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة حتى السابعة. ولم تكن النتائج بأفضل من المحاولة الأولى. وهنا بدأت الشركة الأمريكية صاحبة عقد الامتياز، "سوكال"، وكان مقرها في ولاية كاليفورنيا من الولايات المتحدة، تظهر امتعاضا مشوبا بالحذر. وقررت وقف مزيد من عمليات الحفر. ولم يطرأ على بالهم آنذاك الانتقال إلى موقع آخر خارج منطقة الظهران، ربما لعدم توافر الإمكانات المالية واللوجيستية وخشية الدخول في مخاطرة مكلفة غير مضمونة النتائج. فكانت البرقيات تتوالى من مقر الشركة إلى الظهران حول خطة الانسحاب من المملكة. ومن جميل الصدف أن يكون أحد جيلوجيي الشركة البارزين في زيارة خاطفة إلى الرياض لمهمة خاصة. ولاحظ، بثاقب ذهنه ومهارته الجيلوجية طبيعة التكوينات الصخرية التي كانت ظاهرة على سطح الأرض هناك. وقارنها بما شاهد من مكونات الطبقات التي كان يخترقها الحفر في آبار الظهران ويتم فحصها أولا بأول. وربط بعبقريته وخبرته بين تلك الصخور واستنتج أن من الأفضل تعميق إحدى الآبار إلى تحت المستوى الذي كانوا يتوقفون عنده لإنهاء عملية الحفر. وطلب من الشركة الأم منحهم الفرصة الأخيرة لتعميق الحفر. ووافقت الشركة. وبما أن جهاز الحفر كان وقتها راسيا على بئر رقم سبعة، فقد صار التعميق من نصيبها. وفعلا تدفق البترول بكميات تجارية بعد إضافة عمق بما يقارب 1000 قدم. وأرسلوا تباشير الاكتشاف إلى إدارة الشركة في الولايات المتحدة وإلى الحكومة السعودية. وعادوا إلى بقية الآبار من واحد إلى ستة وعمقوها ليجدوا النتيجة الإيجابية نفسها. وأطلقوا على الحقل اسم "الدمام"، على الرغم من وجوده في جبل الظهران. كان ذلك عام 1938. وخلال عام واحد مدوا خط أنابيب من منطقة الإنتاج في الظهران إلى رأس تنورة من أجل التصدير. ومنذ ذلك الوقت أصبحت رأس تنورة من أكبر موانئ تصدير البترول في العالم.
وبعد أن اطمأنت الشركة الأمريكية لوجود البترول في أرضنا، جيشت إمكاناتها لاستكشاف حقول جديدة في مناطق الامتياز. ولم يخب ظنها، فقد اكتشفت حقل بقيق وأبو حدرية والسفانية ومناطق الغوار وبقية الحقول الأخرى. توقفت بعض عملياتها قليلا أثناء نشوب الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد توقف الحرب سرعان ما استعادت نشاطها واستأنفت عمليات الاستكشاف. ولعل من نافلة القول أن نذكر أن حقل الغوار العملاق الذي يتصدر حقول العالم من حيث الحجم والمساحة والاحتياطي لم يكتشف مرة واحدة. فقد تم اكتشاف حقول فزران في أقصى منطقة الغوار وعين دار وشدقم والعثمانية والحرملية في الجنوب. وبعد دراسة عميقة لطبيعة مادة البترول في تلك الحقول وربطها بالطبيعة الجيولوجية المشتركة قرروا أنها جميعها تكون حقلا واحدا، أطلقوا عليه "الغوار".
بفضل من الله ثم همة وعبقرية القائد الفذ الملك عبدالعزيز -رحمه الله- انتقلت الحياة في المملكة من عصر الشح في المعيشة والفاقة والفقر إلى عصر تغيرت فيه ملامح الحياة ودخل شعب المملكة، وبقية شعوب الخليج، التاريخ من أوسع أبوابه. فتطور التعليم وأسست المدارس الحديثة والجامعات وانتظمت البعثات التعليمية إلى مختلف بلدان العالم. وأنشئت البنية التحتية من طرق ومرافق خدمية من مواصلات واتصالات. وكان للصناعة البترولية دور كبير في رفع مستوى الدخل للدولة والمجتمع، وارتفع مستوى المعيشة بوجه عام.
وها هو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، على خطى المؤسس الذي كان يزور أرض منابع البترول في كل حدث جميل، يقوم -حفظه الله- بزيارة مباركة إلى المنطقة الشرقية، منبع البترول، ليدشن معالم حضارية جديدة ومشاريع منتجة، فعلى الرحب والسعة.