رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


عندما يتغلب الكذب على الصدق

قد لا يصدقني القراء لو قلت إننا أصبحنا اليوم نتلقى كثيرا من الكذب وقليلا من الحقيقة. جبل الكذب أخذ في الانتفاخ وجبل الحقيقة في الانكماش.
وإن قلت إننا بدأنا نغرق من كثرة الأكاذيب التي تدهمنا، لربما قال البعض إنني أبالغ.
وإن قلت إننا في كثير من الأحيان نتصرف استنادا إلى الأكاذيب التي تتلقفنا وتهاجمنا وتضربنا كما يضرب موج اليم قاربا صغيرا لا شراع له، لربما قال آخرون إنني أجافي الحقيقة.
إلى وقت ليس ببعيد، كان الفلاسفة ينسبون الخداع والغش إلى الذين يمتلكون السلطة ومن خلالها يفرضون أنفسهم وحججهم وأفكارهم على الآخرين الأضعف منهم.
والقوي كان يمسك بزمام الأمور. وأول خيط للتسلط هو السيطرة على وسائل الإعلام ومن خلالها يبدأ بث وترويج أطر خطابية توائم ما ترمي إليه السلطة.
والسلطة قد تكون سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية أو مذهبية أو عرقية أو غيرها. وإن لم تملك السلطة، تصبح تابعا لها ولا مكان لك في المجتمع؛ بمعنى أنك تفقد خاصية استخدام عقلك بحرية للتصرف باستقلالية تجاه نفسك وتجاه الآخر.
نظرية أو استراتيجيات السلطة strategies of power كان لها صدى -ولا يزال- في الدراسات الأكاديمية لاسيما التي تعنى بالعلوم الاجتماعية. وباختصار شديد، تقول هذه النظرية إن الإعلام والخطاب العام يتماشى مع السلطة حتى وإن كانت جائرة. والناس تتبع أو تطيع ما يجتره الخطاب السلطوي وهي في أغلب الأحيان لا تعلم أنها مستهدفة في حريتها ورزقها ومكانتها.
هذه النظرية التي ناطى بها فلاسفة كبار لهم شأن كبير في تفكيك مجتمعاتنا العصرية والمفاهيم والأسس التي تقوم عليها. وكان لها دور بارز في ظهور الدراسات النقدية في شتى حقول المعرفة.
وأخذت النظرية مداها إلى درجة أننا تصورنا -أو بالأحرى آمنا- أننا لن نفلح في فهم أنفسنا والعالم الذي حولنا دون تطبيقات عملية للفلسفة هذه.
وإن قلبت صفحات أي مجلة علمية تعنى بشؤون العلوم الاجتماعية والإنسانية مثلا، لرأيت أن العلماء والباحثين مغرمون بهذه النظرية التي أخذت بألبابهم ومنحتهم الأدوات التجريبية والأسلوبية والأنطولوجية (علم الوجود) والإبستيمولوجية (علم أو نظرية المعرفة) لتعرية السلطة واستراتيجياتها ودورها في خداع الناس.
وقبل نحو عقد من الزمن، ظهر كتاب أكاديمي من جامعة سويدية باللغة الإنجليزية وضع أسسا لاستراتيجيات السلطة في وسائل الإعلام الكبيرة وكيف أنها تمط وتنتف وتنتقي الأطر الخطابية التي تتماشى مع أصحاب السلطة على حساب النزاهة والموضوعية والتوازن والحيادية التي تقول إنها النبراس الذي تهتدي به.
اليوم بدأ الإطار النظري لما أتى به هذا الكتاب تنهار أمام ناظري مؤلفه. السلطة لم تعد هي الوحيدة التي تتسلط بالعباد من خلال الإعلام.
اليوم أناس عاديون لا سلطة لهم غير جهاز حاسوب أو هاتف ذكي بإمكانهم منافسة سلطة وسائل إعلامية عالمية. شاب في دولة فقيرة بإمكانه بسط السلطة على المتلقين على طول وعرض الولايات المتحدة -الدولة الأعظم في العالم- يبز بها إمكانات إمبراطورية إعلامية مثل "فوكس نيوز" أو "نيويورك تايمز" أو "سي. إن. إن" أو غيرها.
ليس هذا فقط، الشاب هذا أو رفاقه لا علاقة لهم بالسلطة وكذلك بالإعلام والصحافة. كل ما يقومون به هو أنهم يأخذون خبرا من وكالة عالمية مثل "رويترز" أو "أسوشيتد برس" أو غيرهما من الوسائل الإعلامية ذات التأثير ويعيدون صياغته بطريقة مثيرة لتهيج مشاعر طرف محدد على حساب طرف آخر.
لقد ظهر أن خبرا كتبه هاوي كمبيوتر في ماسيدونيا جذب عددا أكبر من القراء والمتابعين والمعلقين من سبق صحافي قامت به جريدة "نيويورك تايمز" خلال الانتخابات الأمريكية الأخيرة وتناقلته وسائل الإعلام الأمريكية وغيرها على نطاق واسع.
وظهر أن عشرة من بين 20 خبرا الأكثر رواجا وتأثيرا في حملة الانتخابات الأمريكية الأخيرة كانت أخبارا كاذبة، أي كتبها أو حورها أناس عاديون ووضعوها على صفحات التواصل الاجتماعي بغية: أولا الحصول على المال وثانيا التسويق للمرشح الذي بودهم أن يصل إلى البيت الأبيض.
وإن أغلب الأخبار العشرة هذه كتبها هواة خارج الولايات المتحدة بعد أن سجلوا مواقعهم على أنها وسائل إعلامية خبرية أو دور نشر وبهذا يحق لها الحصول على جزء من إيرادات الإعلانات التي تظهر على صفحتها.
وكلما زاد عدد الرواد زادت حصة الناشر من ريع الإعلان التي تحتسب استنادا إلى ظهور الإعلان في الصفحة أو النقر عليه.
وكم من خبر كاذب تسبب في مأساة وكان سببا لاستخدام العنف وإذكاء الكراهية والبغضاء؛ وهنا لا أستثني الشرق الأوسط الذي أرى أنه صار مرتعا لأخبار هكذا.
إننا أمام استراتيجيات السلطة ولكن بشكل مختلف. إننا في حاجة إلى نظريات وفلسفة جديدة بعد أن هدمت التكنولوجيا الرقمية جدار نظريات السلطة التي استولت على قلوبنا لنحو قرن من الزمن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي