لمواجهة التطرف والتشيع السياسي .. المغرب صمام «اعتدال» إفريقيا
تتسارع خطوات الدبلوماسية المغربية هذه الأيام، بقيادة عاهل البلاد في مسار عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، الذي انسحب منه شهر أيلول (سبتمبر) عام 1984، احتجاجا على قبول انضمام الجمهورية العربية الديمقراطية الصحراوية المطالبة باستقلال الصحراء عن المغرب إلى منظمة الوحدة الإفريقية، التي كانت المعالم الأولى لتأسيسها قد وضعت في مدينة الدار البيضاء سنة 1961.
تحركات مكثفة في عمق القارة الإفريقية، عرفت سابقة تاريخية من نوعها حين اختار محمد السادس العاصمة السنغالية داكار مكانا لإلقاء خطاب الذكرى الـ 41 للمسيرة الخضراء. هذا، وكان المغرب قد بعث قبل أشهر برسالة إلى القمة 27 للاتحاد الإفريقي التي انعقدت في العاصمة الرواندية كيغالي، يعلن فيها نيته العودة إلى المنتظم الإفريقي. علاوة على الحضور المتزايد أخيرا لمشكلات وأزمات القارة الإفريقية في الخطب الملكية. وقمة إفريقية على هامش مؤتمر كوب 22 بمراكش، ناهيك عن الزيارات المتوالية -والمتكررة أحيانا- لعديد من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، قبل أن تضاف إليها دول من إفريقيا الغربية في الزيارة الأخيرة.
يستغرب عديد من المراقبين في الإيقاع المرتفع للدبلوماسية المغربية على الجبهة الإفريقية، سعيا لحشد الدعم من أجل حل سلمي لقضية الصحراء، بعدما وصل تداولها إلى الباب المسدود بين أيدي القوى الكبرى، ممن حولوا الملف إلى ورقة ضغط وابتزاز تجاه المغرب.
لكن إمعان النظر في بعض التطورات المتلاحقة للدبلوماسية المغربية على أكثر من صعيد، يظهر أن الأمر لا يعدو أن يكون تحصيل حاصل، فهو حصاد سياسة الاختراق الهادئة وخطة التغلغل التدريجي، التي نهجها المغرب تجاه هذه القارة منذ سنوات، معتمدا في ذلك على تعددية في المداخل بهدف استعادة مكانته الطبيعية داخل القارة السمراء.
استراتيجية جنوب-جنوب
أدرك المغرب أن الرهان الاقتصادي على إفريقيا رهان رابح على المدى المتوسط، فالقارة مرشحة لأن تتحول إلى إحدى كبريات الأسواق العالمية؛ أزيد من ملياري نسمة في أفق 2050. لذا أضحت استراتيجية التعاون الاقتصادي «جنوب-جنوب» تحظى بالأولوية في الأجندة الاقتصادية المغربية، لدرجة أغضبت بعض الشركاء التقليديين للمغرب، من بينهم فرنسا التي زاحمها المد المغربي في الأسواق الإفريقية.
هذا التوجه تُرجم على أرض الواقع في السنوات الأخيرة، من لدن مجموعة من المقاولات المغربية ورجال الأعمال في شعار «إفريقيا والتنمية: حان وقت الاستثمار»، حيث ازداد حجم الحضور الاقتصادي للمغرب في البلدان الإفريقية. إذ نجد -على سبيل المثال- أن الاستثمارات المغربية في منطقة غرب إفريقيا (مالي، غينيا، الغابون،...) تشكل نحو نصف الاستثمارات الأجنبية المباشرة هناك. وشملت مجالات التمويل والتأمين والاتصالات والبنية التحتية والإسكان والمعادن... إلخ، ما أهل المغرب ليكون المستثمر الأول في غرب إفريقيا متقدما على دول قوية مثل فرنسا والصين وتركيا، وإجمالا سجل المغرب حضورا اقتصاديا في العمق الإفريقي داخل 21 دولة.
تظل ميزة الخطة المغربية تجاه إفريقيا في هذا الاختراق الاقتصادي هي اعتمادها قاعدة «رابح/ رابح» في التعامل مع هذه البلدان، ما شجعها على الانخراط المتزايد في الشراكات مع المغرب، ضدا على دول تنهج في تعاملها سياسات الإرث الكولونيالي، حيث ترى إفريقيا مستعمرات لها أن تتصرف فيها كما تشاء.
التدين المعتدل
استثمر المغرب متانة العلاقات التاريخية بينه وبين القبائل الإفريقية التي تعود إلى قرون من الزمن بدءا من العهد المرابطي، في إعادة إحياء روابط الشرعية الدينية للمملكة مع هذه الدول. وذلك بتجديد الأواصر مع الزوايا الصوفية التي تنتشر في ربوع القارة الإفريقية، وفي مقدمتها الزاوية القادرية، وبدرجة أكثر الزاوية التيجانية.
استغل المغرب هذا المعطى الذي يضاف إليه حاجة البلدان الإفريقية إلى الدعم بغية التصدي للانتشار السريع لموجات التكفير بفعل نشاط الحركات الجهادية العنيفة من ناحية، وتزايد التشيع السياسي الآخذ في الانتشار بدعم إيراني في الخفاء من ناحية أخرى، كي يقدم تجربته في مجال هيكلة الحقل الديني، لا بل أضحى يسوق نموذج الإسلام المغربي الوسطي المعتدل المتسامح في إفريقيا.
على هذا الأساس تم بالمغرب، وبرعاية ملكية تكوين عديد من الأئمة الأفارقة، وترميم وإصلاح عدد من المساجد والمدارس القرآنية، وطبع وتوزيع نسخ من القرآن الكريم ببعض بلدان القارة. كما تم تقديم منح لطلبة قادمين من دول إفريقية مختلفة، قصد متابعة تكوينهم في مختلف المعاهد والجامعات المغربية (دار الحديث الحسنية، جامعة القرويين).
أثمر هذا الحضور المتزايد للبعد الديني المغربي المعتدل في إفريقيا احتلال المغرب لمكانة مركزية لدى الشعوب الإفريقية، بعدما نجح بامتياز في تصدير نموذج ديني يؤلف بين المذهب السني المالكي والتجربة الصوفية.
سياسة جديدة في الهجرة
تحول المغرب بحكم موقعه الجغرافي كبوابة إفريقيا نحو أوروبا؛ في العقود الأخيرة، إلى محطة عبور يقصدها المهاجرون الأفارقة نحو القارة العجوز. بيد أن الحكامة الأمنية وتشديد المراقبة على حدود الضفة الشمالية للأبيض المتوسط حوّل المغرب، مع مرور الوقت من منطقة عبور إلى محل إقامة واستقرار لهؤلاء المهاجرين، ممن لم يتمكنوا من ولوج أبواب الحلم الأوروبي.
تدريجيا انقلب هذا الأمر إلى أزمة تقض مضجع السلطات المغربية، قبل أن يتم التعاطي معها في أعلى مستويات الدولة، باجتماع حول مشاكل الهجرة ترأسه عاهل البلاد في أيلول (سبتمر) 2013 وجه فيه السلطات إلى التعامل مع مسألة الهجرة من منظور شامل وإنساني.
وعزز هذا التوجه الداخلي بخطوة مهمة على الصعيد الدولي تمثلت في الدعوة على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2013، إلى إطلاق مبادرة تحت اسم "تحالف إفريقي للهجرة والتنمية" بهدف تعميق رؤية إفريقية مشتركة حول ظاهرة الهجرة، ترتكز على مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان، والمسؤولية المشتركة بين دول المصدر والعبور والاستقبال، وكذا الترابط الوثيق بين الهجرة والتنمية.
عمليا انطلقت بداية عام 2014 مسألة تسوية وضعة المهاجرين الأفارقة ممن كانوا في وضعية غير قانونية فوق التراب المغرب، وذلك بتمكينهم على وثائق للإقامة الشرعية، ما يعني السماح لهم بالبقاء في المغرب بصفة قانونية. وبلغ عدد المشمولين بهذه الإجراءات الجديدة مئات الآلاف من المهاجرين من جنسيات مختلفة، وكانت لهذه السياسة وقع في البلدان المصدرة للهجرة التي اعتبرتها خطوة نوعية، تفرد بها المغرب من بين دول المعني بمشاكل الهجرة في حوض الأبيض المتوسط.
حضور مستمر في الأزمات
ويبقى المدخل الدبلوماسي التقليدي حاضرا في سياسة العودة التدريجية لإفريقيا، بحرص المغرب على اقتناص أي فرصة تمكنه من تحسين وضعه داخل هذه القارة، وتسجيل حضوره داخل أكبر عدد ممكن من دولها.
بناء عليه حرص المغرب على الحضور الدائم في الأزمات التي تشهدها القارة؛ إما بالمشاركة في العسكرية تحت مظلة الأمم المتحدة في علميات حفظ السلام التي يتولاها رجال القبعات الزرق (الكونغو، النيجر، كينيا، روندا، الكوت ديفوار،...)، وإما بالتدخل بناء على طلب من بعض الدول الإفريقية (السنغال، مالي، جزر القمر، إفريقيا الوسطى...). يذكر أن حجم المشاركة المغربية في البعثة الأممية لوحدها بلغ ما مجموعه 2314 جنديا مغربيا منتشرة في 18 دولة إفريقية.
إلى جانب الحضور ذي الطابع العسكري، بدأ المغرب يعتمد أسلوب المبادرات السليمة كخطة للتغلغل في إفريقيا، ومن ضمنها مبادرة الرباط للوساطة بين الحركة الوطنية لتحرير أزواد وحكومة بامكو، حيث استقبل عاهل البلاد في شباط (فبراير) 2014 وفدا عن هذه الحركة على رأسه الأمين العام بلال أغ الشريف في خطوة من الرباط لطي صفحة الخلافات بين الأطراف المنازعة في مالي.
يظهر مما سبق أن المغرب ناجح إلى حد كبير في أسلوب الاختراق التدريجي والبطيء الذي اعتمدته الرباط في تعاملها مع دول غرب وشرق ووسط إفريقيا، بتنويع المداخل والمقاربات الرامية إلى نيل مكانة مركزية في القارة الإفريقية، مستثمرا في ذلك مكاسبه على الصعيد الدولي (وضع متقدم مع أوروبا، إشادة بنموذج الإصلاح في ظل الاستقرار...).