حروب العقل
الوعي بالتاريخ هو ذاته الوعي بالذات في المآل، والمصير، والتبدل والتحول، كل نعمة تتربص بها أسباب زوالها، وكل فقير موعود بالغنى إن سلك سبيل الخلاص منه، للإنسان فعل التدبير، والعبرة، والتبصر، ولله الأمر من قبل ومن بعد، تقدير القدر الذي لا يرد ولا يستبدل، وجريان المصائر بأسبابها، والنجاة بمقدماتها.
في التاريخ يرفع دولاب الاقتصاد من القاع إلى الأعلى أقواما، ويضع من الأعلى للأسفل آخرين، وجرت العادة أن ينسب الإنسان الارتفاع والغنى إلى نفسه في المجمل وفي التفاصيل: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىعِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) القصص (78).
وينسب إلى الله والقدر كل ضعف وفقر وعجز وجرت الأيام على أن يرى كل إنسان قدرا غير يسير من التغير والتبدل في حياته وحياة الناس حوله، من تعاقبهم على الضعف والقوة، وتحول القوة ضعفا، والضعف قوة، بما يفوق تصوره ويتباعد عن إدراك عقله. وبما ينتهي إلى التسليم بواهب الملك لمن يشاء ونازع الملك عمن يشاء، وهو ولي الحول والطول، وهو وحده الغالب على أمره وولي الفعل وحده، والتدبير.
لكل أمة أخطاؤها، ولكل مجتمع ذنوبه، وسيئاته في السياسة، والاقتصاد، وحياة إنسانه، وليس بوسع أحد الآن ألا يتعظ، وألا يعتبر، التحديات أكبر من تجاهلها، أو الخوف من مواجهتها، بات الاستهداف للعرب أكبر من أحقاد الصغار منهم، والجرف يهوي لقاع سحيق، إن لم نعبره بتروي البصير، ويقظة الخبير، بصيرة من يرى موطئ قدمه قبل أن يضعها، فليس أمام العالم العربي اليوم طرق ممهدة، بل هي مزالق كثيرة وخطيرة، في السياسة والاقتصاد والتدمير الممنهج. ليس من سبيل الخوف، ولا من مسالك التشاؤم، بل هي رؤية لواقع جديد، ترسم خرائطه، ويهدم فيه كل شيء، الحضارة، والتاريخ، والإنسان، والعقل، وهي آخر سبيل من سبل الموت والقتل والتدمير، هذا الجذر الذي يجعل السجون عبر العالم تغص بقتلة لو خرجوا منها، لجعلوا كل من تطوله أيديهم أضحية وشاة تذبح.
واصل بن عطاء وجد نفسه في صحراء منقطعة أمام جيش الخوارج فسألوه من يكون؟ فقال لهم: إنه مشرك يطلب أمانهم، فأكرموه، وأحسنوا إليه، عملا بقول الله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) التوبة (6)، لقد بلغ مأمنه ونجا منهم بدعوى الشرك بالله العظيم، ولكن الصحابي الجليل عبدالله بن خباب وجد في أمتعته نسخة من كتاب الله. خالفهم الرأي في تكفير خليفة المسلمين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- فذبحوه ذبحا، ومثلوا بجثمانه، ثم تركوه لتأكله سباع البر وطيوره. إلا أنهم بعد قليل تورعوا عن الرطب اليابس تحت ثلاث من النخيل الضالة في الصحراء، إذ لعل لها مالكا.
من ذاك التاريخ، كنا أمام حروب العقول القاتلة، كنا أمام الإسلام المختطف سياسيا، والموظف مذهبيا، والمستثمر طائفيا الذي تستباح به الحرمات.
الحرب كالقتل تبدأ بالعقل، وتنتهي به، والجسد هو محض آلة عمياء لا تبصر الغاية، ولا تطوع قتل النفس التي حرم الله، وقد خسرنا الماضي والحاضر لأننا خسرنا الحرب الأولى أمام العقل.