«المنجمون» .. واستطلاعات الرأي
ينقل لنا الإعلام بين الفينة والأخرى نتائج استطلاعات الرأي. واستطلاعات الرأي وما أدراك ما استطلاعات الرأي. إنها صناعة قائمة بذاتها. شركات كبيرة وصغيرة في أمريكا والعالم الغربي تعيش على هذه الصناعة.
وما يمنحها المصداقية وما يجعل وسائل الإعلام تتقاطر لنقل نتائج استبياناتها هو مشاركة الجامعات ومراكز البحوث الرصينة في إجرائها أو المساهمة فيها. والصناعة هذه تصل مداخيلها إلى مليارات الدولارات. وتشكل الأزمات والمناسبات السياسية الكبيرة مثل الانتخابات والاستفتاءات مصدرا كبيرا لزيادة أرباح هذه الشركات والمراكز.
وكادت هذه الشركات ومراكز البحث تصبح مصدرا لا يمكن ولا يجوز ليس تفنيده بل حتى مساءلته لولا الفشل المريع الذي منيت به في حادثتين مهمتين ليس على مستوى البلدين اللذين وقعتا فيهما بل على مستوى العالم.
لقد كذب “منجمو” مراكز الأبحاث هذه مرتين متتاليتين هذه السنة. الأولى عندما تنبأوا أن البريطانيين سيصوتون وبأغلبية لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي والثانية عندما أكدوا أن الأمريكيين سينتخبون وبأغلبية هيلاري كلينتون رئيسة لهم.
السقوط المدوي لمراكز الأبحاث والجامعات والشركات التي تقوم باستطلاعات الرأي في الغرب صار اليوم مناسبة لمراجعة الذات على كل الأصعدة ومنها وعلى الخصوص الدراسات الأكاديمية التي تتخذ التحليل الكمي quantitative analysis منهجا لها، كما هو شأن أغلب استطلاعات الرأي والأبحاث المتعلقة بها.
التحليل الكمي له حسناته وتطبيقاته في كثير من المعارف. بيد أن التحليل هذا أخذ منحى وبعدا خارج النطاق الذي وضعه له المفكرون والباحثون في التطبيقات العلمية لاسيما في الولايات المتحدة.
منذ عقود والباحثون والعلماء في أمريكا وعلى الخصوص الجامعات ومراكز الأبحاث والاستطلاع غرسوا في أذهان ليس الناس العاديون بل العلماء والأكاديميون أن كل شيء في الحياة قابل للقياس حتى وإن تعلق الأمر بميول الناس وثقافاتهم وآرائهم ووجهات نظرهم.
ووصل الأمر ببعض مراكز الأبحاث والاستطلاع إلى الشروع في تحاليل كمية من خلالها يحددون رقما محددا لوجهة نظر محددة أو يضعون مقياسا رقميا لمدى النزاهة والموضوعية مثلا في تقارير صحافية كتبت لتغطية حدث معين.
الباحثون الأمريكيون، وآخرون من الذين جروا وراء تحاليلهم الكمية، يريدون أن يقنعونا أن بإمكانهم قياس كمية الحب الذي يكنه زوج لزوجته كأن يكون 85.99 في المائة ومقدار (كمية) الخوف لدى الفرد الأمريكي لما يطلقون عليهم لقب “المتطرفون أو الإرهابيون” من المسلمين.
نعم، هناك مراكز أبحاث واستطلاع في جامعات أمريكية تعطيك رقما مع جزئياته عن الخوف الذي ينتاب الأمريكيين.
لا بل وصل الأمر إلى قيام بعضهم بدراسات واستطلاعات تحدد مدى “إرهابية” مجتمع ما وميله إلى العنف مقارنة بثقافة أخرى أو مجتمع آخر.
يجلس الباحث في جامعة أوهايو مثلا ويرسل استبيانا لعشرات الآلاف من العرب والمسلمين من خلال البريد الإلكتروني. وبين هؤلاء لا يكترث للاستبيان إلا بضعة آلاف (أقصى حد أحيانا ألفان أو ربما أقل) وعدد المسلمين في العالم نحو 1500 مليون.
واستنادا إلى الأجوبة هذه يبنون نظريات ويتنبأون، مثلهم مثل المنجمين، لما هو عليه الوضع الحالي وما سيكون عليه الأمر في المستقبل.
دراسات مثل هذه اتخذها أصحاب الشأن في السياسة في البيت الأبيض ذاته نبراسا للتعامل مع العرب والمسلمين وبناء خطط مستقبلية في كيفية التصرف معهم.
في عام 2010 دعيت للمشاركة في مؤتمر مهم نظمته جامعة ميامي حول علاقة الإعلام بالمتلقين أو المشاهدين أو القراء. وكان شيئا مذهلا الذي رأيته وسمعته.
المتلقون (الجماهير التي تتواصل مع الإعلام) قد جعل منهم الباحثون الأمريكيون أرقاما. الميل ووجهة النظر كانوا يقيسونها بالمثاقيل كما تقيس مادة الطماطم.
وهذا ما حدث عندما استبقت الاستطلاعات نتائج التصويت على البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا ونتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
أظهرت النتائج بطلان القياس أو التحليل الكمي لميول الناس. وهذا ما حدا بمراكز الأبحاث والاستطلاع إلى مراجعة دقيقة لمنهجية methodology البحث العلمي الذي تستند إليه في جمعها المعلومات.
في جامعة ميامي رأيت العجب العجاب. لقد بدا لي أن أغلب العلماء والباحثين في وسائل الإعلام وعلاقتها بالجماهير (المتلقين) لم تقع أعينهم على مؤلفات لميشيل فوكو مثلا أو يورجن هبرماس أو أنطونيو كرمسي أو ريكور أو هورخيمر أو ماركس (المفكر وليس الشيوعي) الذين من خلالهم نتعلم سمو التحليل النقدي في المسائل الإنسانية البحتة على التحليل الكمي.
ميول الناس ووجهات نظرهم وثقافاتهم هي مسألة تفسير ومدلول؛ تفسيرها كيفي أكثر منه كمي؛ ووصفي أكثر منه رقمي.
الأرقام والكميات الرقمية لا تدلنا على من نحن. باستطاعتها الكشف عن رقم (كمية) فلوسنا ولكن ليس حبنا لبعضنا بعضا أو كرهنا للآخر.
لفهم أنفسنا أولا والآخر المختلف عنا ثانيا نحتاج إلى جهد نقدي critical analysis وليس جهدا كميا أو رقميا quantitative analysis.