رواد التعلم الذاتي

صادفت غير مرة نموذجا مختلفا ومميزا من الشباب، أعترف بأن تلك المصادفات كانت قليلة إلا أن قوة أثرها كانت تغطي قلة عددها. الأمر الإيجابي أن هذه المصادفات أصبحت في تزايد مستمر خلال السنوات القليلة الفائتة، وهذا في حد ذاته أمر يبعث على السعادة. قبل أن أتحدث ببعض التفصيل، أنصح كل من يبحث عن موظف رائع أو شريك يمكن الاعتماد عليه بأن يبحث عن مثل هؤلاء، وإذا وجد أيا منهم يتشبث بهم بكل ما يستطيع.
رواد التعلم الذاتي هم الذين يفتحون الأبواب بأنفسهم. الذين يملكون حق الريادة وميزة التقدم بشكل طبيعي عفوي لا يمكن وصفه أو تحليله، فهم لا ينتظرون تحفيزا من أحد، أو ضغطا من قريب، أو دفعة من مسؤول. لا أعلم إن كان تقدمهم أمرا طبيعيا أم أنهم كسبوا مجالا إيجابيا في محيط حياتهم وسع مداركهم وحفزهم لاعتياد هذه السلوكيات العظيمة. لا أعلم إن كانوا قد جبلوا بفطرة طبيعية خارقة على هذا الأمر أو أنهم اكتشفوا سرا مهما أو رزقوا بفضول يحترق كالوقود الناري الذي يصنع من يومياتهم انطلاقات جديدة لا تتوقف كل حين وساعة.
سأبدأ بقصة طالب الدبلوم الذي كان يعرف ما لا يعرفه أستاذه الدكتور، الذي نجح بقراءاته في كتب جامعية لم ولن يدرسها مجبرا -تخص إخوته الأكبر ووالدته- إذ تراكمت في مكتبة منزلهم، ثم اكتسب القدرة على الربط بين المواضيع بإدراك عجيب، ولم يتوقف بطبيعة الحال عن القراءة الغزيرة والمتنوعة. هو يعرف المدخل الأسرع لتحديد مواضع الأفكار وما تستحقه من اهتمام ويتمكن من ربطها بعضها ببعض بطريقة عجيبة. أعتقد أن مثل هؤلاء يملكون شبكة معقدة ولكن منضبطة يرتبون فيها أفكارهم في عالم ثلاثي الأبعاد، فكل نقطة معرفية صغيرة يتحدث عنها تجد لها موضعا ومدخلا وربما عدة مخارج يربطها بنقاط معرفية أخرى في السياق نفسه، أو حوله. مثل هذا يتميز في الربط بين ثقافاته "الأخرى" وبين أعماله وممارساته، مثل هذا يعرف كيف يستثمر جل اهتماماته في حياته العملية، ولا يحبس نفسه في جدار العزلة بين ثقافته الغنية وبين ممارساته المتواضعة.
أما الشخصية الأخرى فكانت في نظري أفضل المستفيدين من خدمات "جوجل" في المنطقة! بالطبع هو لا يعتمد على محرك البحث المشهور للحصول على نتائج المباريات وربما حلول الألغاز فقط، بل يعرف كيف يستخدم عملاق القرن المعرفي بطريقة تجعل ساعات يومه دروسا معرفية متواصلة، لا يرتاح فيها إلا حينما يغلق عينيه للنوم. فهو يحصل على تعاريف المصطلحات التي تمر عليه أثناء عمله وأنشطته الأخرى، ويترجم كل كلمة جديدة في سجل يومي يتجاوز العشرة على الأقل من المصطلحات الجديدة، ويعرف كيف يوجه الباحث الإنترنتي الأسطوري ليخدمه بالمستندات والمواقع والأحداث كما يفضل، ويعرف جيدا كيف يتمكن من تخصيص بحثه بشكل سريع ومفيد. مثل هذا يمارس حياته في الشارع وأطرافه مثل الأخطبوط تنقب في بطون الكتابات الافتراضية، عن معلومات حسب الطلب تمنحه ما يريد بلا تردد وبسرعة البرق.
المثال الثالث هو ذلك المبدع الذي لا يجد مشقة في قراءة النصوص البائسة ومتابعة التعليمات الجافة. هو يعرف أن السر يكمن في معرفة ما يجهد الساعي لمعرفته. يقرأ الأنظمة، والتعليمات، والقوانين، والعقود. يتميز عن غيره بأنه يستطيع استدراك المعلومة الصارمة التي لا تقبل الجدل، ويعرف كيف يظهر نفسه بأنه المصدر الأكثر اعتمادية في المواضيع التي لا يقرأها أحد. مثل هذا لا يحفظ النصوص، وإنما يتعامل معها بذكاء بعد أن يستثمر بعض وقته في المرور عليها بشكل روتيني اعتيادي ويدون ملاحظاته واستخلاصاته بترتيب ووضوح.
أما المبدع الأخير، فهو من يعرف كيف يحصل على أفضل درس في العالم في المجال الذي يختاره، وهو في أبعد مكان عن كل العالم. فهو يعيش في حالة من التعلم المستمر بطريقة عصرية جدا، لديه زملاء في "رواق" وعلى "Edx" و"Coursera" وغيرها من منصات التعلم على الإنترنت. مثل هذا يعرف كيف يغطي كل عيوب تعليمه النظامي بلمسات ذاتية يستمتع بها. يملك خطته الشخصية جدا، ويستجيب لفضوله بإيجابية فارقة، ويعرف كيف يطرح في سيرته الذاتية إثبات تمكنه من أساسيات التطبيق الملائم، عندما يتقدم للوظيفة الملائمة.
لن يكفي التعلم الذاتي في حد ذاته لتحقيق النجاح، ولكنه حتما يظهر كأحد أهم السمات الشخصية عند من يود أن يمسك بزمام المبادرة ويعبر من طريق التميز. لا تصنع الشخصية المبادرة إلا بالتصرفات الذاتية، والحوافز الذاتية، والتعلم الذاتي. الإبداع كذلك يبحث عمن يستطيع الاستفادة من عوالم مختلفة في المحيط نفسه، وهذا لا يحدث إلا بترك العنان للتعلم الذاتي المرن والمنطلق. ولأن مثل هؤلاء يجيدون التواصل مع المعرفة بمختلف أشكالها، فهم لا يعجزون -ولو بعد حين- عن إتقان التواصل مع بقية الناس بشكل متميز ومختلف، لذلك سرعان ما يكتسبون جل ما يؤهلهم للنجاح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي