التقاعد .. المرحلة الأخيرة في حياة الموظف
تعد سن الستين عاما في حياة الموظف هي البداية الحقيقية للمرحلة الأخيرة من عمره المديد، ولذلك إذا بلغ الموظف الستين خريفا أو لنقل ربيعا، فإنه ــ بموجب نظام الخدمة المدنية ــ يحال إلى التقاعد.
وفي السياق الطبيعي أن الإنسان بعد الستين عاما يتعرض لعدد من الأمراض التي تعارف الناس على تسميتها باسم أمراض كبار السن أو أمراض الشيخوخة، وهي أمراض مؤلمة ومكلفة كثيرا.
بمعنى أن الموظف حينما يحال إلى التقاعد يحتاج إلى رعاية صحية خاصة ويحتاج إلى مواجهة تكاليف الحياة بإمكانات مالية كبيرة.
ولكن مع الأسف كل الأنظمة.. تقف موقفا عدائيا من الموظف الذي يبلغ سن الستين عاما، بدءا بأنظمة التأمين ثم أنظمة القروض وأنظمة التقسيط حتى نظام الخدمة المدنية، نعم كل هذه الأنظمة تتخذ موقفا عدائيا من الموظف الستيني، وفي تقديري فإن الموظف الذي يبلغ الستين ربيعا.. يحتاج إلى مزيد من رعاية المجتمع، لأن رعاية المواطن إذا كانت مطلوبة حينما يكون على رأس العمل، فهي واجبة بعد أن يحال إلى التقاعد.
ولذلك فإن المواقف العدائية التي تتخذها مجموعة أنظمة القطاع الخاص والقطاع العام إزاء هذا الستيني الإنسان لا تتفق مع أبسط قواعد الشريعة السمحة ولا تتفق مع مبادئ حقوق الإنسان.
إن أنظمة التأمين تقف ممن بلغ الستين عاما موقف الرفض الكامل، فكل مواطن بلغ الستين عاما، فإنه يفقد أهم شرط من شروط التوقيع على بوليصة التأمين على الصحة أو التأمين على البيت أو التأمين على الحياة، وعليه أن يلقى مصيره المحزن مع ثلة من الأمراض التي ورثها في فترة قيامه بمهام الوظيفة، كما أن المواطن الذي بلغ الستين فإنه يفقد أهم شرط من شروط اللياقة النظامية المؤدية إلى الحصول على قرض لبناء مسكن أو شراء سيارة أو ثلاجة أو حتى دراجة، وهكذا فإن الإنسان بمجرد بلوغه سن الستين فإنه يقصى من المزايا الكريمة للإنسان الذي شرفه الله سبحانه وتعالى بخدمة أمته ومجتمعه!
أحد الأصدقاء ممن بلغ الستين عاما جاءني حانقا من أحد المصارف، وقال كنت في المصرف البارحة، فأعطاني الموظف بروشورا لبطاقة جديدة، فهمت منها أنها تستهدف التسهيل على الناس في عيشهم ومعاشهم، وفرحت بالبروشور وأخذته من الموظف، ثم بدأنا نتحدث عن استحقاقات الحصول على هذه البطاقة، ومن أول وهلة صدمني الموظف قائلا، إن هذه البطاقة متاحة لكل الفئات العمرية إلا من بلغ الستين عاما.
وأصبت بصدمة في الحال، وحاولت أن أسترخي حتى أكون جاهزا للرد بهدوء، ثم قلت، حتى التخفيضات في الخدمات والمشتريات تنحي الستيني جانبا، لماذا نغتال إنسانيتنا ووجودنا؟ ثم رفع صاحبي نبرة صوته المرتعشة وقال، كنت أتمنى ألا تأتي هذه "الستين" المدمرة إلا بعد أن ندفن في جوف الأرض، وختم صديقي حديثه قائلا، حتى حينما نطلق الشعارات إنما نطلقها وهي فارغة من محتواها وليس فيها فعل يعبر عن الوطن الواحد والعائلة الواحدة والمصرف الواحد.
إن هذه القصص التي أصبحت تتزايد مع تزايد قوافل المتقاعدين تحتاج بقوة إلى البحث عن حلول، إن التأمين على الصحة هو أحوج ما يكون للستيني قبل غيره من الذين لا يزالون ينعمون في ربيع أعمارهم، وإن القروض لتأمين السكن هي أجمل هدية يجب أن نقدمها للستيني الذي خدم مجتمعه نحو أربعين عاما، وإن البيع بالتقسيط سياسة بيعية يجب أن تقدم مع الشكر الجزيل إلى الستيني قبل أن تقدم إلى العشريني أو الثلاثيني......
طبعا كان المطلوب من الوزارة أن تبقي خيطا من العلاقات الإنسانية مع أبنائها وتصمم مشروعا يعبر عن استمرار العلاقة الإنسانية والأخلاقية مع أبنائها، إما عن طريق إنشاء الأندية أو تأسيس الجمعيات التعاونية أو وضع تفاهمات مع المصارف وشركات التأمين تضمن ـ على الأقل ـ توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمتقاعدين وبالذات الحياة المتعلقة بالسكن والتأمين على الصحة.
هذا عن الموظف الحكومي أو الموظف في القطاع العام، أما الموظف المتقاعد في القطاع الخاص، فإنه يقع في دوائر نظامية تغلق عليه جميع منافذ الرحمة والأمل، فهو ممنوع من الاقتراض لإنشاء مسكن أو إقامة مشروع، وممنوع من التأمين الصحي.
إنني أرجو من أعضاء مجلس إدارة جمعية المتقاعدين أن يعملوا ما بوسعهم من الجهد كي يحافظوا على كرامة الإنسان المتقاعد، وأظنهم مدركين لهذا الواجب المهم، ويجب أن يستثمروا كل الظروف التي تحيط بهم ويرفعوا شعارا للجمعية يقول، "لنحافظ على كرامة الإنسان السعودي في الوظيفة وبعد الوظيفة".
ومن منظور إسلامي بين القرآن الكريم مراحل حياة الفرد، وجعل الشيخوخة هي المرحلة الأخيرة من حياة الإنسان الدنيوية قال تعالى، "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون"، وورد في السنة النبوية الشريفة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمر أمتي من ستين إلى سبعين سنة".
ويجب أن نعترف بأننا ـ كمجتمع سعودي ـ لم نكافئ الموظف المحال إلى التقاعد بما يستحقه من تقدير وتكريم نظير ما قدمه للمجتمع من تضحيات وخدمات طوال فترة الخدمة التي كان يقوم بها، بل بالعكس عاملنا الإنسان المتقاعد بالنكران والجحود وقفلنا أمامه أبواب الحياة الرغيدة والكريمة، وأعتقد أننا لا نبالغ إذا قلنا إن الموظف في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص دفع حياته وشبابه ثمنا لوظيفته، وطبعا جنى فوائد هذه الخدمة من الرواتب المستحقة التي كان يقبضها مع مطلع هلال كل شهر، ولكن لا ننسى أن الموظف أفنى ربيع عمره فداء لوظيفته، ولذلك حينما يحين وقت الاستراحة، فإننا يجب ألا نحرمه من الراحة ونيسر أمامه سبل الحصول على أبسط الاحتياجات الضرورية للحياة الكريمة وهما السكن الدافئ والعلاج الذي يحتاج إليه بعد أن تخطى سن العمل وبدأ سن التقاعد والمعاناة الصحية. وما كان يجب أن نفعله إزاء الموظف المتقاعد هو أن نعده الأجدر بتقديم التسهيلات التي تتناسب مع ظروف تقاعده وتأخذ بيديه إلى حياة رخية وكريمة ينهي بها بقية عمره، أما أن نعرضه لحياة تعيسة وقاسية بعد أن قدم لنا زهرة شبابه، فهذا منطق لا يتناسب مع شريعتنا الغراء وترفضه أبسط قواعد حقوق الإنسان.
البعض يقول، إن قوانين القروض والتأمين التي تطبقها المصارف وشركات التأمين في المملكة هي القوانين السائدة في كل أنحاء العالم، وإذا كان الأمر كذلك، فإننا لا نتمنى أن نكون حريصين على تطبيق قوانين تتعارض مع نظامنا الإسلامي الخالد ولا تراعى أبسط قوانين حقوق الإنسان وتتنكر لموظف أفنى زهرة شبابه في أدائه لعمله أيام الصحة والنضارة والعز، وما نعرفه يقينا أن الغرب يميز الموظف المتقاعد بكثير من المزايا والعطايا ولا يتركه يغرد وحيدا في العوز والفاقة والحرمان.
إن التسهيلات التي تقدمها المجتمعات الغربية لأبنائها "السينير" كثيرة، وفي جميع مجالات الحياة، أنهم ييسرون سبل الحياة لكبار السن ويخفضون تكاليفها ويقدمونهم على الأسوياء والأصحاء في كل الشؤون والشجون، ونحن مع الأسف نتجه بكل قوة في الطريق المعاكس!!